للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فُتِنُوا وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ تَحْكِ شَيْئًا عَنْ لِسَانِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاخْتِبَارِ الْعَامِّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (٢٥: ٢٠) أَيْ جَعَلْنَا كُلًّا مِنْكُمُ اخْتِبَارًا لِلْآخَرِ فِي اخْتِلَافِ حَالِهِ مَعَهُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، أَوِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَوِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - هَذَا يَحْتَقِرُ هَذَا وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَهَذَا يَحْسُدُ هَذَا وَيَكِيدُ لَهُ. فَاصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ إِلَّا الصَّابِرُونَ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ.

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) .

هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَمِّمَتَانِ لِلسِّيَاقِ فِيمَا قَبْلَهُمَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِرْشَادِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِيَاسَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْ طَرْدِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ اسْتِمَالَةً لِكُبَرَاءَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَطَمَعًا فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ وَسَمَاعِهِمْ لِدَعْوَتِهِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ - كَمَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَلْقَاهُمْ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبُ نُزُولِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ اسْتَحْسَنَ إِجَابَةَ أَشْرَافِ الْكُفَّارِ إِلَى اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ أَقْبَلَ فَاعْتَذَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبُولِ اعْتِذَارِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَنَّ رِوَايَاتِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ مُعَارِضَةٌ لَهَا. وَالْآنَ رَأَيْتُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ اسْتِشْكَالَ هَذَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي زِيَادَةِ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَيُعَارِضُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ جُلُّ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مَاهَانَ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) الْآيَةَ فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَاهَانَ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً كَرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فِي مُعَارَضَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>