النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَاهَا عَلَى مَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي عُمَرَ وَحْدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَلَا فِيمَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ مَاهَانَ - وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّةَ الرِّوَايَتَيْنِ - وَلَا فِيمَنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اقْتُرِحَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرْدُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِيهَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَهَذَا مَا تُفْهِمُهُ عِبَارَتُهَا، وَمَا سِوَاهُ فَمُتَكَلَّفٌ لِتَطْبِيقِهِ عَلَى الرِّوَايَاتِ.
وَبَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ فِيهَا وَفِيمَا قَبْلَهَا، كَانَ أَوَّلُ مَا تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ آنًا بَعْدَ آنٍ، عَنْ بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا مَنْ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَغَيْرُهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ " يُؤْمِنُونَ " يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِيمَانِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ آمَنُوا فِي الْمَاضِي إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ - كَمَا يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَحْيَانًا لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ - كَإِرَادَةِ تَصْوِيرِ مَا مَضَى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ الْآنِ، أَوْ إِفَادَةِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورًا بَيِّنًا يُرَجِّحُ صَرْفَ الْفِعْلِ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّأْنِ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَيُرَجِّحُ الْأَصْلُ هُنَا تَطْبِيقَ السِّيَاقِ عَلَى حَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْآيَاتِ أَتَمَّ الظُّهُورِ.
كَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ كَافِرِينَ، إِمَّا كَفْرُ جَحُودٍ وَعِنَادٍ، وَإِمَّا كُفْرُ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ، وَكَانَ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ تَارَةً مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُرْشِدُهُمْ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَدْعُوهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَكَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ لِلتَّعْجِيزِ، وَتَارَةً يُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ بِوُجُودِهِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ مَعَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ طَرَدَهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ،
وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَرْشَدَهُ رَبُّهُ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الْقَوْلِيِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى أَنْ يُبَيِّنَ لِمُقْتَرِحِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute