للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آيَةِ النَّهْيِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) . إِلَخْ. وَالْآيَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ فِيهَا ابْتِلَاءَ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَغْبَتَهُمْ فِي طَرْدِهِمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) تَقَدَّمَ مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكِتَابَتُهَا إِيجَابُهَا عَلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا. فَالرَّحْمَةُ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ الْوَاجِبَةِ لَهَا لَا عَلَيْهَا، وَإِنَّ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلْبَشَرِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمَا آتَاهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْوَهْبِيَّةِ - لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ عِبَادِهِ بِهَا فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، بَلْ هِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا أَمْرٌ آخَرُ خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْخَلْقِ كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلِ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) إِلَخْ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ " أَنَّهُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " إِنَّهُ " بِكَسْرِهَا، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ؛ إِذْ ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَصِّ الْوَحْيِ، وَهُوَ حُكْمُ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يُعَامِلُهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِهَا، وَمَا هُوَ إِحْسَانٌ غَيْرُ مَكْتُوبٍ مِنْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا بِالنَّظَرِ

فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابَتِهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكَسْرِ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ النَّحْوِيِّ أَوِ الْبَيَانِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذِهِ الرَّحْمَةُ؟ أَوْ: مَا حَظُّنَا مِنْهَا فِي أَعْمَالِنَا؟ وَهَلْ مِنْ مُقْتَضَاهَا أَلَّا نُؤَاخَذَ بِذَنْبٍ، وَأَنْ يُغْفَرَ لَنَا كُلُّ سُوءٍ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ: إِنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ عَمَلًا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ وَتَأْثِيرُهُ لِضَرَرِهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِجَهَالَةٍ دَفَعَتْهُ إِلَى ذَلِكَ السُّوءِ، كَغَضَبٍ شَدِيدٍ حَمَلَهُ عَلَى السَّبِّ أَوِ الضَّرْبِ، أَوْ شَهْوَةٍ مُغْتَلِمَةٍ قَادَتْهُ إِلَى انْتِهَاكٍ عِرْضٍ، فَالْجَهَالَةُ هُنَا هِيَ السَّفَهُ وَالْخِفَّةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا الرَّوِيَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْجَهْلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْعِلْمُ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلِ السُّوءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا، فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَالضَّرَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ سُوءَ عَاقَبَتِهِ وَقُبْحَ تَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سُخْطِ رَبِّهِ وَعِقَابِهِ، ذَهَابًا مَعَ الْأَمَانِي وَاغْتِرَارًا بِتَأَوُّلِ النُّصُوصِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً فَهُوَ جَاهِلٌ.

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْ حَظِّكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) أَيْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ السُّوءِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ شَاعِرًا بِقُبْحِهِ، نَادِمًا عَلَيْهِ خَائِفًا مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَأَصْلَحَ

<<  <  ج: ص:  >  >>