للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا يَنْحَصِرُ فِي كَوْنِهِ إِلَى الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ الْمَحْصُورَةِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ عَدَّى إِسْلَامَ الْوَجْهِ بِ (إِلَى) فِي سُورَةِ لُقْمَانَ وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ بِمَعْنَى تَوْجِيهِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

هَذَا وَإِنَّ التَّعْبِيرَ بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ مَا فُتِنَ بِهِ الْقَوْمُ مِنْ تَأْثِيرِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَرْضِ - إِنْ صَحَّ - لَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ خَاصِّيَّةً لِبَعْضِ أَجْرَامِ السَّمَاءِ، وَهِيَ لَمْ تُوجِدْ نَفْسَهَا وَلَا صِفَاتَهَا وَخَوَاصَّهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءٌ أَوْ أَجْزَاءٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَرَاهَا النَّاظِرُ الْمُتَفَكِّرُ خَاضِعَةً لِتَدْبِيرِ مَنْ فَطَرَ الْعَالَمَ الْكَبِيرَ الَّتِي هِيَ بَعْضُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَلَّى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْعَالِمِ، وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ مُدَبِّرٌ وَاحِدٌ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ نِظَامُ الْمُتَعَدِّدِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَيُعَادُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢) وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَجْزَاءِ الْكَوْنِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شُبَهَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَالْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الْمَيْلُ عَنِ الضَّلَالِ وَالْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَضِدُّهُ الْجَنَفُ بِالْجِيمِ. فَقَوْلُهُ حَنِيفًا حَالٌ، أَيْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَهُ حَالَ كَوْنِي مَائِلًا عَنْ مَعْبُودَاتِكُمُ الْبَاطِلَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، فَتَوَجُّهِي وَإِسْلَامِي خَالِصٌ لَهُ لَا يَشُوبُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَمَا أَنَا مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَالْكَوَاكِبِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْمُلُوكِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ لَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ. تَبَرَّأَ أَوَّلًا مِنْ شِرْكِهِمْ أَوْ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٦٠: ٤) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا حِينَ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ -: مَا جِئْتَ بِشَيْءٍ وَنَحْنُ نَعْبُدُهُ وَتَتَوَجَّهُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ حَنِيفٌ، أَيْ مُخْلِصٌ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ كَمَا يُشْرِكُونَ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى.

وَفِي الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى: كَفَتْحِ يَاءِ " إِنَّى " وَسُكُونِهَا، وَإِمَالَةِ " رَأَى " وَكَسْرِ

الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ فِيهَا، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ ضَمُّ " آزَرَ " عَلَى النِّدَاءِ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ اسْمًا عَلَمًا؛ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ النِّدَاءِ خَاصٌّ بِالْعِلْمِ فِي الْفَصِيحِ، وَغَيْرُهُ شَاذٌّ.

(مَسَائِلُ مُتَمِّمَةٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ)

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى أَيْضًا، وَيُشْرِكُونَ مَا ذُكِرَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي الْعِرَاقِ. وَقَدْ أَثْبَتَ بَيْرُوسُوسُ وَسِنِيلُوسُ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ وَكُهَّانَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>