أَنَّ ذَلِكَ ذَاتِيٌّ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ لَيْسَ خَاضِعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ; لِقِصَرِ إِدْرَاكِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَوْنِ الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ خَاصَّةً بِخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَمَا امْتَازَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَوْنِ خَفَاءِ سَبَبِ الْخُصُوصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ خُضُوعِ صَاحِبِهَا لِسُنَنِ الْخَالِقِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شُئُونِهِ (أَيْ شُئُونِ صَاحِبِ الْخُصُوصِيَّةِ) وَوَثَنِيَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ السَّافِلَةُ.
(ثَانِيهِمَا) اتِّخَاذُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي مَظَاهِرِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَسِيلَةً إِلَى الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ، تَشْفَعُ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، أَوِ التَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُمَثِّلُهَا أَوْ يُذَكِّرُ بِهَا، فَيَتَوَسَّلُ ذُو الْحَاجَةِ بِدُعَائِهَا وَتَعْظِيمِهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ لِأَجَلِ حَمْلِهِ تَعَالَى - بِتَأْثِيرِهَا عِنْدَهُ - عَلَى قَبُولِهِ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُ، وَهَذَا التَّوَسُّلُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ اللهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ عَدَمِ انْفِرَادِ الرَّبِّ بِالِاسْتِقْلَالِ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَكَوْنِهِ يَفْعَلُ بِتَأْثِيرِ الْوَسِيلَةِ فِي إِرَادَتِهِ، وَهَذَا شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةِ. وَهَذِهِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ الرَّاقِيَةُ الَّتِي كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ:
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
وَكَانَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدِ ارْتَقَوْا فِي وَثَنِيَّتِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَوْشَكُوا، إِذْ إِنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَلَا تُبْصِرُ عِبَادَتَهُمْ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَلَا ضُرِّهِمْ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا بِعِبَادَتِهَا آبَاءَهُمْ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مُحَاجَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (٢٦: ٦٩) إِلَخْ. وَلِذَلِكَ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مَعْبُودِينَ، لَا أَرْبَابًا مُدَبِّرِينَ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ السَّبَبِيِّ أَوِ الْوَهْمِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَوَسَّعُوا فِي إِسْنَادِ التَّأْثِيرِ إِلَيْهَا حَتَّى اخْتَرَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ لَهُ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الشَّمْسَ رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، يُدَبِّرُ الْمُلُوكَ، وَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ، وَيَنْصُرُ جُنْدَهُمْ، وَيَخْذُلُ عَدُوَّهُمْ، وَيُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَيَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي زُحَلَ وَاسْمُهُ (بِينِي) وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ (مِرْدَاخَ) وَهُوَ الْمُشْتَرَى - شَيْخُ الْأَرْبَابِ وَرَبُّ الْعَدْلِ وَالْأَحْكَامِ، حَافَظُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخُصُومُ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ - وَأَنَّ (رَنْكَالَ)
وَهُوَ الْمِرِّيخُ كَمِيُّ الْأَرْبَابِ، وَرَبُّ الصَّيْدِ، وَسُلْطَانُ الْحَرْبِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَ زُحَلَ فِي تَدْبِيرِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّيْدِ، وَذَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ، وَأَنْ (عِشْتَارَ - أَوْ - نَانَا) وَهِيَ الزُّهَرَةُ رَبَّةُ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَمُفِيضَةُ السُّرُورِ عَلَى النَّاسِ، وَتُمَثَّلُ فِي الْآثَارِ بِامْرَأَةٍ عَارِيَةٍ، وَأَنَّ (نَبْوَ) وَهُوَ عُطَارِدٌ رَبُّ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
وَكَانَتْ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْبَالِغَةَ فِي حَصْرِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي تَمَاثِيلِهِمْ: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢١: ٥٦) وَبِهَذَا كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute