وَكَانَ لِلْكَلْدَانِ (ثَالُوثٌ) آخِرُ أَحَدُ آلِهَتِهِ (سِينِي) وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهَذَا الِاسْمُ سَامِيٌّ، فَاسْمُ الْقَمَرِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ سِينُ، وَكَذَا فِي السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ، وَمِنْ أَلْقَابِهِ زَعِيمُ الْأَرْبَابِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَبَعْلُ رُونَا) أَيْ رَبُّ الْبِنَاءِ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهُ فِي جَمِيعِ تَطَوُّرَاتِهِ مُنْذُ يَكُونُ هِلَالًا، وَلَهُ هَيَاكِلُ كَثِيرَةٌ، وَأَعْظَمُ مَعَابِدِهِ فِي (أُورَ) .
وَالثَّانِي (سَانُ) أَوْ (سَانْسِي) وَهُوَ الشَّمْسُ، وَالِاسْمُ سَامِيٌّ أَيْضًا، وَمِنْهُ السَّنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ - بِالْقَصْرِ - الضِّيَاءُ، وَقِيلَ: ضَوْءُ النَّارِ وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَعَمُّ. قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (١٠: ٥) وَمِنْهُ (شَانِي) بِالْعِبْرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا لَامِعٌ، وَاسْمُ الشَّمْسِ بِاللُّغَةِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ (سِيُونَا) وَمِنْ أَلْقَابِ هَذَا الْإِلَهِ: رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَكَانَ لَهُ هَيَاكِلُ فِي الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ وَأَشْهَرُهَا (بَيْتُ بَارَا) وَبَارَا أَوْ فَرَا اسْمُ الشَّمْسِ بِالْمِصْرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَكَانَ اسْمُ (هِلْيُبُولِيسَ) عِنْدَهُمْ (سِيبَارَا) وَتُسَمَّى فِي الْآثَارِ (تِسِيبَارْ شَاشَامَاسْ) وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ مَدِينَةُ الشَّمْسِ، وَلِلشَّمْسِ زَوْجَةٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهَا (أَيْ) وَ (كُولَا) (أَنُونِيتْ) .
وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ (فُولُ) أَوْ (ايفَا) أَيِ الْهَوَاءُ، وَهُوَ رَبُّ الْجَوِّ الْقَائِمُ بِتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ، الْمُتَصَرِّفُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالْمَوَاسِمِ. وَمِنْ هَيَاكِلِهِ هَيْكَلٌ بَنَاهُ الْمَلِكُ (شَمَّاسْ فُولْ) الَّذِي مَلَكَ الْكَلْدَانَ سَنَةَ ١٨٥٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ.
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَنَامِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا رَأَى أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْغَابِرِينَ، فَيَعْلَمُ مِنْهَا خَبَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْعَهْدِ الْعَتِيقِ مِنْ كَوْنِ كَاتِبِهِ (عِزْرَا الْكَاهِنِ) كَتَبَهُ بَعْدَ السَّبْيِ، فَاقْتَبَسَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ تَقَالِيدِ الْبَابِلِيِّينَ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَشُبْهَةُ الشِّرْكِ وَكَوْنُهُ قِسْمَانِ)
ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً لَا أَرْبَابًا، وَيَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا آلِهَةً، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ وَالْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ الْمُتَصَرِّفُ، وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ رَبٌّ وَلَا إِلَهٌ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَمُلْكُهُ حَقِيقِيٌّ تَامٌّ، وَمُلْكُ غَيْرِهِ عُرْفِيٌّ نَاقِصٌ مَوْقُوتٌ، لَهُ أَجْلٌ مَحْدُودٌ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، إِذِ الْعِبَادَةُ الْحَقُّ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلرَّبِّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوَجُّهُ بِالدُّعَاءِ وَكُلِّ تَعْظِيمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ إِلَى ذِي السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لَهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَهِيَ خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ، وَكُلُّ مَاعَدَاهُ فَهُوَ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهَا
بَلْ سُلْطَانُهُ فِيهَا. وَالْأَصْلُ فِي اخْتِرَاعِ كُلِّ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَمْرَانِ:
(أَحَدُهُمَا أَنَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ رَأَوْا بَعْضَ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، فَتَوَهَّمُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute