وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِسْمَاعِيلُ وَالْيَسَعُ وَيُونُسُ وَلُوطٌ، وَأَخَّرَ ذَكَرَهُمْ لِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا أَوْ سُلْطَانِهَا مَا كَانَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي
الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ لِلْقَسَمِ الثَّانِي، وَقَدْ قَفَّى عَلَى ذِكْرِهِمْ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِكُلِ نَبِيٍّ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا وُجِدَ مِنْ نَبِيَّيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ فَقَدْ يَكُونُونَ مَعَ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَاضِلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا شَكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ لُوطٍ الْمُعَاصِرِ لَهُ، وَأَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُ، وَأَنَّ عِيسَى أَفْضَلُ مِنِ ابْنِ خَالَتِهِ يَحْيَى، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ السُّوَرِ مُفَصَّلًا وَفِي بَعْضِهَا مُخْتَصَرًا ; وَلِذَلِكَ نُرْجِئُ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ، وَاللهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا وَإِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذَا الْبَيَانُ لِتَرْتِيبِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُكْتَةُ مَا ذَيَّلَ بِهِ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهُمْ هُوَ مِمَّا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ حَوَّمَ بَعْضُهُمْ حَوْلَهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ " رُوحِ الْمَعَانِي " وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ: " وَلَمْ يَظْهَرْ لِيَ السِّرُّ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ السَّلَامِ، عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَقْدِيمٍ فَاضِلٍ عَلَى أَفْضَلَ، وَمُتَأَخِّرٍ بِالزَّمَانِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ بِهِ، وَكَذَا السِّرُّ فِي التَّقْرِيرِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي) إِلَخْ. وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ " انْتَهَى. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ يُؤْتَى مَفْضُولًا مَا لَا يُؤْتَى أَفْضَلَ الْفُضَلَاءِ.
وَنَذْكُرُ هُنَا مِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ اسْمِ (الْيَسَعَ) فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُحَرِّكًا بِوَزْنِ (الْيَمَنِ) الْقُطْرِ الْمَعْرُوفِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِلَامَيْنِ أُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى بِوَزْنِ (الضَّيْغَمِ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْيَسَعَ مُعْرِبُ الِاسْمِ الْعِبْرَانِيِّ يُوشَعَ فَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَارَنَتِ النَّقْلَ فَجُعِلَتْ عَلَامَةُ التَّعْرِيبَ فَلَا يَجُوزُ مُفَارَقَتُهَا لَهُ كَالْيَزِيدِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّعْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مَنْقُولٌ مِنْ (يَسَعُ) مُضَارِعِ (وَسِعَ) وَأَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعْرِيبٌ (الْيَشَعِ) وَهُوَ أَحَدُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ (إِلْيَاسَ)
(إِيلِيَا) وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي نَقْلِ الْعِبْرِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ إِبْدَالُ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِالْمُهْمِلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ عِيسَى فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ عَلَى أَنَّ لَفَظَ الذُّرِّيَّةِ يَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْآلُوسِيُّ وَقَالَ: وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ (أَيْ عِيسَى) لَيْسَ لَهُ أَبٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute