إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِيهِ وَقَدْ هَاجَرَ مَعَهُ فَهُوَ يَدْخُلُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَيُعَدُّ مِنْهَا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ الَّذِي يُسَمُّونَ بِهِ الْعَمَّ أَبَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا التَّجَوُّزِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا لَمْ يُرَتِّبْهُمْ عَلَى حَسَبِ
تَارِيخِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ هُدَى وَمَوْعِظَةً لَا تَارِيخًا - وَلَا عَلَى حَسَبِ فَضْلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَيْسَ كِتَابَ مَنَاقِبَ وَمَدَائِحَ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ تَذْكِرَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لِمَعَانٍ فِي ذَلِكَ جَامِعَةٍ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَيُّوبُ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَهَارُونُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى آتَاهُمُ الْمُلْكَ وَالْإِمَارَةَ، وَالْحَكَمَ وَالسِّيَادَةَ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ قَدَّمَ ذَكَرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَكَانَا مَلَكَيْنِ غَنِيَّيْنِ مُنَعَّمَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُمَا أَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَكَانَ الْأَوَّلُ أَمِيرًا غَنِيًّا عَظِيمًا مُحْسِنًا، وَالثَّانِي وَزِيرًا عَظِيمًا وَحَاكِمًا مُتَصَرِّفًا، وَلَكِنْ كُلًّا مِنْهُمَا قَدِ ابْتُلِيَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ كَمَا ابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ فَشَكَرَ، وَأَمَّا مُوسَى وَهَارُونُ فَكَانَا حَاكِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَكُلُّ زَوْجَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ مُمْتَازٌ بِمَزِيَّةٍ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي فِي نِعَمِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي فِي الدِّينِ فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا أَكْثَرَ تَمَتُّعًا بِنِعَمِ الدُّنْيَا، وَدُونَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ، وَدُونَهُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ أَفْضَلُ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ وَأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ أَيُّوبَ وَيُوسُفَ، وَأَنَّ هَذَيْنَ أَفْضَلُ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بِجَمْعِهِمَا بَيْنَ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نِعَمِ الدُّنْيَا وَرِيَاسَتِهَا بِالْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمْ يُوسُفَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ١٢: ١٢٢ فَهُوَ جَزَاءٌ خَاصٌّ بَعْضُهُ مُعَجَّلٌ فِي الدُّنْيَا، أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي جِنْسِهِ يَجْزِي اللهُ بَعْضَ الْمُحْسِنِينَ بِحَسَبِ إِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْجِئُ جَزَاءَهُ إِلَى الْآخِرَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ امْتَازُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِشِدَّةِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَّاتِهَا، وَالرَّغْبَةِ عَنْ زِينَتِهَا وَجَاهِهَا وَسُلْطَانِهَا ; وَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ هُنَا بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهِمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ صَالِحًا وَمُحْسِنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute