للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا إِلَخْ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ كَوْنَ التَّوْرَاةِ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِلْيَهُودِ خَاصَّةً كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا أَرْسَلُوا وَفْدًا. إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَسَأَلُوهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُصُولِ الدِّينِ احْتِجَاجًا وَجِيهًا وَلَا يَصْحُ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَلَغَتْهُمْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى الدَّالَّةُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَكِتَابِهِ بِالتَّوَاتُرِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ بِسَبَبِ طَلَبِ مِثْلِهَا. وَالَّذِي يَتَّجِهُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بِمَكَّةَ - كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو مُحْتَجَّةً عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ اسْتِبْعَادًا لِخِطَابِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِكِتَابِ مُوسَى، وَإِرْسَالِهِمُ الْوَفْدَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْعَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُلْ) لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ قَوْمِكَ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - كَقَوْلِهِمْ " أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا ": (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا) انْقَشَعَتْ بِهِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي وَرِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْمِصْرِيِّينَ (وَهَدًى لِلنَّاسِ) أَيِ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ أُخْرِجُوا مِنَ الضَّلَالِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أَنْشَأَتْهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَكَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ مُقِيمِينَ لِلْعَدْلِ إِلَى أَنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَصَارُوا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا) عِنْدَ الْحَاجَةِ: إِذَا اسْتُفْتِيَ الْحَبْرُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَهُ هَوًى فِي إِظْهَارِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا كَتَبَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي قِرْطَاسٍ - وَهُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهَا - فَأَظْهَرَهُ لِلْمُسْتَفْتِي وَلِخُصُومِهِ " وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَخْبَارِهِ إِذَا كَانَ لَهُمْ هَوًى فِي إِخْفَائِهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ مِنْ نُسَخِهِ شَيْءٌ. وَهَذَا الْإِخْفَاءُ لِلنُّصُوصِ فِي الْوَقَائِعِ غَيْرُ مَا نَسِيَهُ مُتَقَدِّمُو الْيَهُودِ مِنَ الْكِتَابِ بِضَيَاعِهِ عِنْدَ تَخْرِيبِ الْقُدْسِ وَإِجْلَائِهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ٥: ١٣ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُقْرَأُ هَكَذَا بِمَكَّةَ وَكَذَا بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ أَخْفَى أَحْبَارُ الْيَهُودِ

حُكْمَ الرَّجْمِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْفَوْا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ عَنِ الْعَامَّةِ وَتَحْرِيفُهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِلْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ (إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ) فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ، كَانَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَلَا مُخِلٍّ بِالسِّيَاقِ أَنْ يُلَقِّنَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ الْجُمَلَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مَسْمَعِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ بِالْخِطَابِ لَهُمْ فَيَقُولُ: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)

<<  <  ج: ص:  >  >>