للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَعَ عَدَمِ نَسْخِ الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الْمُؤَيَّدِ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَقَائِعِ يَتَّجِهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا، وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ عَرَضَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) فَقَالَ قَتَادَةُ: الْيَهُودُ آتَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عِلْمًا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَذَمَّهُمُ اللهُ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذِهِ لِلْعَرَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. فَإِنَّ مَا عَلِمَهُ الْعَرَبُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ وَهِدَايَتِهِ قَدْ أَدَّوْهُ إِلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَتْ فَائِدَتُهُ عَامَّةً.

وَفِي الْجُمْلَةِ امْتِنَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرَّسُولِ وَقَوْمِهِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيتَائِهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْحَكِيمَ الْمُبِينَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْيَهُودِ: وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَهْدَى مِنْكُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ٢٧: ٧٦ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَمِنْهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ مَا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ - مِنْ بَسْطِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ مُوَضَّحَةً بِالْأَمْثِلَةِ مُؤَيِّدَةً بِالدَّلَائِلِ، وَمِنْ إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ بِجَعْلِهَا وَسَطًا بَيْنَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَالنَّصَارَى مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَمِنْ جَعْلِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ مُصْلِحَةً لِأَنْفُسِ الْأَفْرَادِ وَمُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْجَمَاعَاتِ، وَمَنْ جَعْلِ الْحُكُومَةِ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالشَّرِيعَةِ مُسَاوِيَةً بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْمِلَلِ وَالْأَفْرَادِ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ، لَا يُمَيَّزُ فِيهَا إِسْرَائِيلِيٌّ لِنَسَبِهِ وَلَا عَرَبِيٌّ لِحَسَبِهِ، وَلَا يُحَابَى مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يُظْلَمُ كَافِرٌ بِكُفْرِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) ٤: ١٣٥ وَتَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) ٥: ٨ وَغَيْرِهِمَا، فَكَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ -

وَكَذَا النَّصَارَى - بَعْدَ مَجِيءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْكَامِلَةِ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ، الَّتِي أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَا دِينَهُ الْمُطْلَقَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، أَنْ يَكُونُوا أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مَنْ كُلِّ ذِي عِلْمٍ وَفَنٍّ حَرِيصٍ عَلَى الْكَمَالِ فِيهِ إِذَا جَاءَهُ مَنْ يَفُوقُهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ رَأَى كِتَابًا فِيهِ يَفْضُلُ كُلَّ مَا عَرَفَ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ الْقَوْمِيَّةِ، هِيَ الَّتِي صَدَّتْ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَدَّتْ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَلَا تَسَلْ عَنْ حَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ آمَنَ مِنْ فُضَلَاءَ الْمُعْتَدِلِينَ. وَجُمْلَةُ " وَعُلِّمْتُمْ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ.

بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتُرْشِدُ إِلَى الْبُرْهَانِ الْمُفَنِّدِ لِزَعْمِهِمْ، وَشَفَعَهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمُلْجِمَ لَهُمْ، ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ الَّذِي كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>