يَجِبُ أَنْ يُجِيبُوا بِهِ لَوْ أَنْصَفُوا، وَأَقَرُّوا بِالْحَقِّ وَاعْتَرَفُوا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ وَهُمْ جَاحِدُونَ، لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ وَلَا يُذْعِنُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: اللهُ أَنْزَلَهُ - أَيْ كِتَابَ مُوسَى - ثُمَّ دَعْهُمْ بَعْدَ بَيَانِ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَلْعَبُونَ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ. وَفِي أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْجَوَابِ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، لِمَا فِي الْإِنْكَارِ مِنْ مُكَابَرَةِ النَّفْسِ. وَمَا فِي الِاعْتِرَافِ مِنْ خِزْيِ الْغَلَبِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا يَجْحَدُونَ مِنَ الْحَقِّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِهِمْ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. وَمِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ احْتِجَاجُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِالْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَتَكْرَارِ لَفْظِ (اللهْ، اللهْ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهُمْ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ سَاكِنَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُفِيدًا وَالِاسْمُ الْكَرِيمُ فِي الْآيَةِ مَرْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ حُذِفَ أَحَدُ جُزْأَيْهَا لِقَرِينَةِ السُّؤَالِ الَّتِي هِيَ جَوَابُهُ كَمَا عَلِمْتَ.
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ مَا لَزِمَكُمْ مِنْ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُكْتَبَ وَيُهْتَدَى بِهِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِتَرْقِيَتِهِ تَعَالَى لِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةِ الْبَشَرِ - مَا يَنْسَخُهُ، (وَهَذَا) " أَيِ الْقُرْآنُ " (كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ) ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّفْخِيمِ (أَنْزَلْنَاهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ (مُبَارَكٌ) بَارَكَهُ اللهُ أَوْ بَارَكَ فِيهِ بِمَا فَضَلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، وَبِمَا يَكُونُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى آخِرِ عُمُرِ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ مِنَ " الْبَرَكَةِ " وَهِيَ - بِالتَّحْرِيكِ - النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَةُ النَّافِعَةُ كَبِرْكَةِ الْمَاءِ. وَمِنْ مَعَانِي الْمَادَّةِ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقْرَارُ كَبَرْكِ الْبَعِيرِ. (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وَهُوَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ مُصَدِّقٌ لِإِنْزَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِكُلِّ مَا يُعْزَى إِلَيْهَا بِالتَّفْصِيلِ وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ بَعْضُ الْكُتُبِ بِأَسْمَائِهَا وَالصُّحُفِ مُضَافَةً إِلَى أَصْحَابِهَا، وَذَكَرَ بَعْضَ قَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، عَلَى أَنَّهُ أُنْزِلَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، نَاعِيًا عَلَى بَعْضِ أَهْلِهَا تَحْرِيفَهُمْ لَهَا، وَنِسْيَانَهُمْ لِحَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَمَا قَبْلَهَا. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ " مُبَارَكٍ " عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ خَيْرُهُ، دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هُوَ بِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فَهُوَ أَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ أَوْ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ انْتَهَى. أَيْ عِلْمِ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute