للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْقُدْرَةِ مِنَ الثَّانِي وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْحَالَيْنِ وَالنَّظَرُ أَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ ; فَلِهَذَا كَانَ جَدِيرًا بِالتَّصَوُّرِ وَالتَّأْكِيدِ فِي النَّفْسِ وَبِالتَّقْدِيمِ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ فِي " دُرَّةِ التَّنْزِيلِ " إِلَى جَعْلِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ لَفْظِيًّا مَحْضًا. وَمُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ: " وَمُخْرِجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ " لِمُنَاسَبَةِ " فَالِقِ الْحَبِّ " الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ عَدَلَ عَنْ " وَمُخْرِجُ " الْمُبْدَأِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى " يُخْرِجُ " الَّتِي بِمَعْنَاهَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " لِمُنَاسَبَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّ " وَالنَّوَى " بُدِئَتْ بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَخُتِمَتْ بِهَا، فَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " تَتَكَرَّرُ الْوَاوُ الْمَفْتُوحَةُ تَكْرَارًا مُسْتَثْقَلًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَمِثْلُهُ إِخْرَاجُ الْبَارِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحِ مِنَ الطَّالِحِ وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَعَكْسِهِ بِحَمْلِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ مِنْهُمَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) ١٢٢ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا السِّيَاقَ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ آيَتِي آلَ عِمْرَانَ " ٣: ٢٧ " وَيُونُسَ " ١٠: ٣١ " فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْأُولَى فِي ص ٢٢٦

ج ٣ ط الْهَيْئَةِ.

(ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ ذَلِكَ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ مُقْتَضَى الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَلْقِ نَوَاةٍ وَلَا حَبَّةٍ، وَلَا إِحْدَاثِ سُنْبُلَةٍ وَلَا نَخْلَةٍ؟ .

(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) جَمَعَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ آيَاتٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَعْدَ الْجَمْعِ فِيمَا قَبْلَهَا بَيْنَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَرْضِيَّةٍ (فَالْآيَةُ الْأُولَى) فَلْقُ الْإِصْبَاحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّبْحُ وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ " أَصْبَحَ الرَّجُلُ " إِذَا دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحِ ... تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ.

بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - مَصْدَرَيْنِ، وَجَمْعُ مَسَاءٍ وَصُبْحٍ، وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ فَلْقِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَشَقِّهَا بِعَمُودِ الصُّبْحِ الَّذِي يَبْدُو فِي جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأُفُقِ مُسْتَطِيلًا، فَلَا يُعِيدُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَطِيرًا، تَتَفَرَّى الظُّلْمَةُ عَنْهُ مِنْ أَمَامِهِ وَعَنْ جَانِبَيْهِ إِلَى أَنْ تَنْقَشِعَ وَتَزُولَ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ فَجْرًا فَإِنَّ الْفَجْرَ بِمَعْنَى الْفَلْقِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الشَّمْسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>