الَّذِي يَتَقَدَّمُهَا ; إِذْ هُوَ خَالِقُهَا وَمُقَدِّرُ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنْهَا فِي سَيْرِهَا، كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَةِ الْأَوْلَى التَّأَمُّلُ فِي صُنْعِ اللهِ بِفَرْيِ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، عَنْ صُبْحِهِ إِذَا تَنَفَّسَ، وَإِفَاضَةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ جَمَالِ الْوُجُودِ، وَمَبْدَأُ زَمَنِ تَقَلُّبِ الْأَحْيَاءِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُضِيِّهِمْ فِي تَجَلِّي النَّهَارِ إِلَى مَا يُسِّرُوا لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنْ نِعَمٍ وَحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِفَائِدَتِهَا، وَهِيَ آيَةُ اللَّيْلِ يَجْعَلُهُ اللهُ سَكَنَا، فَهَذَا الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَعْلُ النَّهَارِ وَقْتًا لِلْحَرَكَةِ بِالسَّعْيِ لِلْمَعَاشِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْمَعَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَوْعَيِ الْفَائِدَتَيْنِ فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ٢٨: ٧٣ فَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا جَامِعَةٌ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَفِيهَا
اللَّفُّ وَالنَّشْرُ، أَيْ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْ فَضْلِ اللهِ فِي النَّهَارِ، وَلِيُعِدَّكُمْ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ بِهِمَا، وَبِمَنَافِعِكُمْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِذِكْرِهِمَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) ٧٨: ١٠، ١١ وَمِنْهَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدِّينِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) ٢٥: ٦٢ فَيَا لَلَّهِ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ، فِي اخْتِلَافِ عِبَارَتِهِ! ! .
قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ " وَجَعَلَ اللَّيْلَ " بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ " وَجَاعِلُ " وَرَسْمُهُمَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، وَالْأُولَى تُقَوِّي جَانِبَ الْإِعْرَابِ ; فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى اللَّيْلِ مَنْصُوبَانِ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ، وَلَا يَظْهَرُ نَصْبُهُمَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ جَعَلَ، أَوْ جَعَلَ " جَاعِلُ " بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ يُجْتَنَبُ فِي الْفَصِيحِ. وَالثَّانِيَةُ تَنَاسِبُ السِّيَاقَ وَالنَّسَقَ بِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُخْرَجُ عَنْهُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. فَبِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ زَالَ التَّكَلُّفُ وَتَمَّ التَّنَاسُبُ، فَيَا لَلَّهِ مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ فِي عِبَارَتِهِ، وَاخْتِلَافِ قِرَاءَتِهِ! ! .
وَالسَّكَنُ - بِالتَّحْرِيكِ - السُّكُونُ وَمَا يُسْكَنُ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ كَالْبَيْتِ وَزَمَانٍ كَاللَّيْلِ، وَكَذَا مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْكَشَّافُ هُنَا قَالَ: السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ أَيْ وَغَيْرُهُ وَيَطْمَئِنُّ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا، أَلَا تَرَاهُمْ سُمَّوْهَا الْمُؤْنِسَةَ، وَاللَّيْلُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ بِالنَّهَارِ لِاسْتِرَاحَتِهِ فِيهِ وَجِمَامِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ مَسْكُونًا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) انْتَهَى. وَهَذَا الْأَخِيرُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَهُ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَدَلِيلُ التَّرْجِيحِ نَصُّ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) وَكَوْنُ الْمَسْكُونِ فِيهِ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْمَسْكُونِ إِلَيْهِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَوْحِشُونَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَأْنَسُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرِينَ أَيَادٍ جَلِيَّةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute