الْكَثَافَةُ، وَإِنَّمَا لَطَافَتُهَا بِالْإِضَافَةِ، فَاللَّطَافَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا النُّورُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَجِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْبَصَائِرِ فَضْلًا عَنِ الْأَبْصَارِ، وَيَعِزُّ عَنْ شُعُورِ الْإِسْرَارِ فَضْلًا عَنِ الْأَفْكَارِ، وَيَتَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ، وَيُنَزَّهُ عَنْ حُلُولِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، فَإِنَّ كَمَالَ اللَّطَافَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَوَصْفُ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا دُونَهُ فِي اللَّطَافَةِ، وَيُوصَفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْكَثَافَةِ، انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الْآلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْكَثِيفِ - عَلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الذِّهْنِ - عَلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اللَّطِيفُ مِنْ إِثْبَاتِ اللُّطْفِ بِالذَّاتِ لِلَذَّاتِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْعِيفِ جَعْلِ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالدَّقَائِقِ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ، إِذْ مَا فُسِّرَ بِهِ اللَّطِيفَ هُنَا هُوَ مَعْنَى الْخَبِيرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ إِلَخْ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ الْجِسْمَ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْجِسْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَدْلُولِ اشْتِقَاقِهَا. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَسَامَةِ أَيِ الضَّخَامَةِ، وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ: جَمَاعَةُ الْبَدَنِ أَوِ الْأَعْضَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ الْقَابِلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَالْمَوْجُودَاتُ الْمَادِّيَّةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي عُلُومِ الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا الْمَثَلُ بِلُطْفِ الْهَوَاءِ أَوِ النَّسِيمِ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّسِيمَ اللَّطِيفَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ كُلٌّ مِنْهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِأَرْضِنَا حَدًّا قَرِيبًا، وَأَنْ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودًا آخَرَ أَلْطَفُ مِنْهُ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ عُنْصُرَيْهِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ اللَّطِيفَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ
مِنَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْأَبْعَادِ الشَّاسِعَةِ إِلَى هَوَائِنَا فَأَرْضِنَا وَيُسَمُّونَهُ (الْأَثِيرَ) فَهَذَا الْمَوْجُودُ السَّارِي فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الرَّابِطُ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، قَدْ لَطُفَ عَنْ أَدْرَاكِ الْعُيُونِ وَعَنْ تَصَرُّفِ أَيْدِي الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يُرْجِعُونَ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى بَسَائِطِهَا اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَيَرَى بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِاسْتِقْلَالِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى الشَّكْلِ فِي الْأَشْبَاحِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِينُ عَلَى هَذَا التَّشَكُّلِ بِالْأَثِيرِ، فَأَلْطَفُ شَبَحٍ تَتَجَلَّى بِهِ يَتَّخِذُ مِنَ الْأَثِيرِ الْمُكَثَّفِ بَعْضَ التَّكْثِيفِ بِحَيْثُ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوذِ فِي كَثَائِفِ الْأَجْرَامِ، وَقَدْ تَأْخُذُ شَبَحًا لَهَا مِنْ جِسْمِ بَشَرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ كَمُسْتَحْضِرِي. الْأَرْوَاحِ، فَإِذَا خُلِعَتِ الرُّوحُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ امْتَنَعَتْ رُؤْيَتُهَا لِتَنَاهِي لَطَافَتِهَا.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِ الْوُجُودِ، وَكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute