للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) فَرَأَوْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِأَعْيُنِهِمْ وَسَمِعُوا شَهَادَتَهَا لَكَ بِالرِّسَالَةِ بِآذَانِهِمْ (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى) مِنْهُمْ بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ آيَةً لَكَ وَحُجَّةً عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا لِلْإِنْسَانِ (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) أَيْ وَجَمَعْنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَوْتَى فَسُقْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلًا لَهُمْ، أَوْ كَافِلًا لِصِحَّةِ دَعْوَاكَ، أَوْ قَبِيلًا قَبِيلًا (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَنَفْيُ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ مَنْ جَاءَهُ وَلِيٌّ يُرِيدُ نَصْرَهُ وَإِغَاثَتَهُ وَإِخْرَاجَهُ مِنْ ضِيقٍ نَزَلَ بِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَدُوٌّ يُهَاجِمُهُ لِيُوقِعَهُ بِهِ وَيَسْلُبَهُ مَا بِيَدِهِ فَيَنْبَرِي لِقِتَالِهِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ إِنَّمَا أَنَا وَلِيٌّ نَصِيرٌ، لَا عَدُوٌّ مُغِيرٌ، ظَنَّ أَنَّهُ يَخْدَعُهُ بِقَوْلِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى قَتْلِهِ قَتَلَهُ، لَا يَعْقِلُ غَيْرَ هَذَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قُبُلًا) قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كَالْأَوَّلِينَ هُنَا وَكَالْآخِرِينَ فِي الْكَهْفِ. قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَاجَهَةُ بِالشَّيْءِ، وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ مُوَاجَهَةً وَمُعَايَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّ الْأُولَى جَمْعُ قَبِيلٍ فَهُوَ كَقُضُبٍ وَرُغُفٍ - بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا - جَمْعُ قَضِيبٍ وَرَغِيفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبِيلًا قَبِيلًا وَصِنْفًا صِنْفًا، أَيْ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ عَلَى حِدَةٍ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ مُفْرَدِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) (١٧: ٩٢) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْكَفِيلُ، أَيْ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا ذُكِرَ كُفَلَاءَ يَضْمَنُونَ لَهُمْ صِحَّةَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَعَانِي لِلْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّفَقٌ يُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) فَقِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، مَعْنَاهُ لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى إِنْ شَاءَ إِيمَانَ أَحَدٍ مِنْهُمْ آمَنَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ أَوِ

الْأَوْقَاتِ، وَالْمُرَادُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ مَا دَامُوا عَلَى صِفَاتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُزِيلَهَا فَعَلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِذَلِكَ الْجَزْمِ بِعَدَمِ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعِنَادِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي فَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ جَارِيَةٌ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى كَكُلِّ مَا يَجْرِي فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَوْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِسُنَنِهِ، وَتَبْدِيلٌ لِطِبَاعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ خَلْقِهِ - الْإِنْسَانِ - فَهُوَ إِذًا مَزِيدُ تَأْكِيدٍ لِنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُعِدُّ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٨٧: ٦، ٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>