للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْسَى أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِهِ مَا اسْتَشْكَلُوهُ وَذَهَبُوا الْمَذَاهِبَ فِي تَأْوِيلِهِ مِنْ آيَتَيْ سُورَةِ هُودٍ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (١١: ١٠٧) وَلَا حُجَّةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا لِلْجَبْرِيَّةِ عَلَى جَبْرِهِمْ، وَلَا لِلْقَائِلِينَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى لِلشَّرِّ وَلَا لِمُنْكِرِيهِ، فَكُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَشَرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا جَارٍ بِنِظَامٍ وَسُنَنٍ حِكْمِيَّةٍ وَكُلُّهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِقُبْحِهِ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِهِمْ بِهِ وَعِقَابِهِمْ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الْفِرَقُ كَمَا بَيَّنَاهُ مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي مَبَاحِثَ أُخْرَى مِنَ الْمَنَارِ.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَانْطِبَاقَهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، لِذَلِكَ يَتَمَنَّى بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ يُؤْتَى مُقْتَرِحُو الْآيَاتِ مَا اقْتَرَحُوهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ بِمُلْزِمَةٍ وَلَا مُغَيِّرَةٍ لِطِبَاعِ الْبَشَرِ فِي اخْتِيَارِ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ نَظَرِهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى لَجَعَلَهَا كَذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ أَيْضًا لَخَلَقَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ خَلْقًا لَا عَمَلَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَى رُسُلٍ، بَلْ لَا يَكُونُونَ هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الَّذِي سُمِّيَ الْإِنْسَانَ.

ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَطْعًا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ - كَالْجُمَلِ قَبْلَهَا - وَلَا شَكَّ أَنَّ جَهْلَهُمْ عَظِيمٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ إِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لَهُمْ،

وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِهِمُ الْمُسْتَهْزِئُونَ الْخَمْسَةُ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ مِنْ آخِرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَنْظَلَةَ، فَقَدْ كَانُوا أَجْهَلَ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ وَأَشَدَّهُمْ جَهْلًا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَلَمَّا تَضَمَّنَ الْقَوْلُ السَّابِقُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ أَعْدَاءٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا اقْتَرَحُوا مَا اقْتَرَحُوا إِلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَوْنَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَابًا لِلطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ - أَرَادَ اللهُ تَعَالَى تَسْلِيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّتُهُ فِي جَمِيعِ النَّبِيِّينَ فَقَالَ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أَيْ وَكَمَا جَعَلْنَا هَؤُلَاءِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ أَعْدَاءً لَكَ، جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ جَاءَ قَبْلَكَ أَعْدَاءً هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالْعَدُوُّ ضِدُّ الصَّدِيقِ وَالْحَبِيبِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (٢٦: ٧٧) وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْعَدُوَّ هُنَا بِأَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>