وَالتَّغْرِيرُ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ قَدِ ارْتَقَى عِنْدَ شَيَاطِينِ هَذَا الزَّمَانِ وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينُ السِّيَاسَةِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، فَإِنَّهُمْ يَخْدَعُونَ الْأَحْزَابَ مِنْهُمْ وَالْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيُصَوِّرُونَ لَهَا الِاسْتِعْبَادَ حُرِّيَّةً، وَالشَّقَاوَةَ سَعَادَةً، بِتَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ وَتَزْيِينِ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّ مِنَ الشُّعُوبِ
غِرَارًا كَالْأَفْرَادِ، تُلْدَغُ مِنَ الْجُحْرِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ بَلْ عِدَّةَ مِرَارٍ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَلَّا يَفْعَلُوا هَذَا الْإِيحَاءَ الْغَارَّ مَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ، أَوْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا زَيَّنَتْهُ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، بَلْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي سُلُوكِ كُلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، كَمَا قَالَ فِي الْإِنْسَانِ (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠: ١٠) وَمِنْ وَسْوَسَةِ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ لِلنَّاسِ وَزُخْرُفِهَا تَحْرِيفُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ بِحَمْلِهَا عَلَى مَعْنَى الْجَبْرِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ عَاصٍ لِلَّهِ مَعْذُورٌ لِأَنَّهُ مَا عَصَاهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْهَا. وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (٦: ١٤٨) فَلَا عُذْرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمُ اضْطِرَارِيَّةً، بَلْ خَلَقَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ كَثِيرًا بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ، وَإِذَا اعْتَرَفُوا بِخَطَأٍ يَلْتَمِسُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ الْعُذْرَ (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) مِنْ كَذِبٍ، وَيَخْلُقُونَ مِنْ إِفْكٍ، لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَسَنُرِيكَ سُنَّتَنَا فِي أَمْثَالِهِمْ بَعْدَ حِينٍ. وَقَدْ فَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَهْلَكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّ السِّيَاقَ نَزَلَ فِيهِمْ، وَنَصَرَ اللهُ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَكَذَا يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَأَمَّا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمَجْدِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الْفَلْجُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى لِأَشَدِّهِمْ مُرَاعَاةً لَهَا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَتَخَلُّقًا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِرَارًا.
(وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) صَغِيَ إِلَيْهِ " كَرَضِيَ " يَصْغَى صِغًى وَصَغِي إِلَيْهِ صَغْيًا مَالَ وَمِثْلُهُ صَغَا يَصْغُو صَغْوًا. وَأَصْغَى إِلَى حَدِيثِهِ مَالَ وَاسْتَمَعَ، وَأَصْغَى الْإِنَاءَ أَمَالَهُ. وَيُقَالُ: صَغِي فَلَانٌ وَصَغْوُهُ مَعَكَ أَيْ: مَيْلُهُ وَهَوَاهُ - كَمَا يُقَالُ ضِلْعُهُ مَعَكَ وَالْمَعْنَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيُغْرُوهُمْ بِهِ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تَصْغَى إِلَيْهِ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَهْوَائِهِمْ (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ
مُقْتَرِفُونَ) أَيْ وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُرْضُوهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ فِي صِحَّتِهِ وَعَدَمِهَا، وَأَنْ يَقْتَرِفُوا بِتَفْسِيرِهِ مَا هُمْ مُقْتَرِفُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ بِغُرُورِهِمْ بِهِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ. اقْتَرَفَ الْمَالَ اكْتَسَبَهُ، وَالذَّنْبَ اجْتَرَحَهُ، وَصَرَّحَ بِاللَّامِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ دُونَ الْغُرُورِ لِأَنَّ الْغُرُورَ مِنْ فِعْلِ الْمُوحِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute