وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُغْتَرِّينَ بِهِ لِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهُ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ لَا يُهِمُّهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءُ شَهَوَاتِهِمْ. وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ فِعْلِ الْغِرِّ وَالْغُرُورِ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُغْتَرِّينَ بِهِ، فَظَنَّ أَنَّ تَفْسِيرَ الْكَلَامِ هَكَذَا يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى زَيْدٌ غَرَّ عَمْرًا فَاغْتَرَّ. وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ قَطْعًا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ (١١٢) مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (١٠٧) مِنْ آيَاتٍ قَبْلَهَا فِي السُّورَةِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) وَهِيَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ أُسْنِدَتْ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ إِظْهَارِ الْحَقَائِقِ فِي شُئُونِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ وَمَا لَيْسَ لَهُ، وَأُسْنِدَتْ إِلَى اسْمِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى الرَّسُولِ فِي مَقَامِ تَسْلِيَتِهِ وَبَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَعْدَاءِ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَةُ رَبِّكَ الْكَافِلِ لَكَ بِحُسْنِ تَرْبِيَّتِهِ وَعِنَايَتِهِ - نَصَرَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهَمِ الصَّوَابِ.
(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى رَسُولِهِ
الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَأَقْسَمُوا بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَاهُمْ وَأَيْمَانِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ، وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُغْرُونَ الْجَاهِلِينَ بِزُخْرُفِ أَقْوَالِهِمْ. فَيَصْرِفُونَهُمْ بِهَا عَنِ الْحَقِّ وَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْبَاطِلَ، فَتَمِيلُ إِلَيْهِ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيَرْضَوْنَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَهْوَائِهِمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ السَّيِّئَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ. ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُبَيِّنَتَيْنِ لِآيَةِ اللهِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّهِ مِنْ جَمِيعِ مَا اقْتَرَحُوا وَمِمَّا لَمْ يَقْتَرِحُوا مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ. وَهِيَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، وَكَوْنُ مُنْزِلِهَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِ، وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ فِيهَا دُونَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُبْطِلِينَ الْمُضِلِّينَ فَقَالَ آمِرًا لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute