للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِيَمْكُرُوا فِيهَا. وَ " جَعَلْنَا " بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولَاهُ " أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا " عَلَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي - أَوْ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ، وَمُجْرِمِيهَا بَدَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ إِنْ فُسِّرَ الْجَعْلُ بِالتَّمْكِينِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ جَازَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالْمُطَابَقَةُ، وَلِذَلِكَ قُرِئَ (أَيْ فِي الشَّوَاذِّ) " أَكْبَرَ مُجْرِمِيهَا " انْتَهَى. وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ.

وَالْمَكْرُ: صَرْفُ الْمَرْءِ غَيْرَهُ عَمَّا يُرِيدُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيلَةِ فِي الْفِعْلِ أَوِ الْخِلَابَةِ فِي الْقَوْلِ، وَالْأَكْثَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَعَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ قَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى إِخْفَائِهِمَا بِالْحِيلَةِ وَالْخِلَابَةِ.

وَنَقُولُ فِي الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ هَذَا الْعَصْرِ: إِنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَاصِمَةٍ لِشَعْبٍ أَوْ أُمَّةٍ أَوْ كُلِّ قَرْيَةٍ وَبَلْدَةٍ بُعِثَ فِيهَا رَسُولٌ أَوْ مُطْلَقًا رُؤَسَاءُ وَزُعَمَاءُ مُجْرِمُونَ يَمْكُرُونَ فِيهَا بِالرُّسُلِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ أَكَابِرُهَا الْمُجْرِمُونَ مَاكِرِينَ فِيهَا بِالرُّسُلِ فِي عَهْدِهِمْ، وَبِسَائِرِ الْمُصْلِحِينَ

مِنْ بَعْدِهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَكْثَرِ أَكَابِرِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْمَطَامِعُ وَيَعْظُمُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ - يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ وَجَمَاعَاتِهَا لِيَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ وَيُعَزِّزُوا كِبْرِيَاءَهُمْ وَيُثَمِّرُوا مَطَامِعَهُمْ فِيهَا، وَيَمْكُرُ الرُّؤَسَاءُ وَالسَّاسَةُ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ لِإِرْضَاءِ مَطَامِعِ أُمَّتِهِمْ وَتَعْزِيزِ نُفُوذِ حُكُومَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ. وَقَدْ عَظُمَ هَذَا الْمَكْرُ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَصَارَ قُطْبَ رَحَى السِّيَاسَةِ فِي الدُّوَلِ، وَعَظُمَ الْإِفْكُ بِعِظَمِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ، وَقَدْ كَتَبْنَا مَقَالًا فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَشَرْحِ عِلَلِهِ وَأَسْبَابِهِ عُنْوَانُهُ (دَوْلَةُ الْكَلَامِ الْمُبْطِلَةُ الظَّالِمَةُ) نُشِرَ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ.

وَهَذَا الْعُمُومُ فِي الْآيَةِ صَحِيحٌ وَاقِعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْعِلْمِ بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، وَلَا تَظْهَرُ صِحَّةُ الْعُمُومِ فِي الْقُرَى وَالْأَكَابِرِ جَمِيعًا بِجَعْلِ جَمِيعِ الْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ فِي جَمِيعِ الْقُرَى، أَوْ بِجَعْلِ جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا أَكَابِرَ أَهْلِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِجْرَامُ هُوَ سَبَبَ كَوْنِهِمْ أَكَابِرَهَا، بَلْ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ أَكْثَرِ الْأَكَابِرِ الزُّعَمَاءِ مُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ وَلَا سِيَّمَا فِي الْقُرَى الَّتِي اسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ بِحَسَبِ سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (١٧: ١٦) وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِمَا نُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَمَا يَلْزَمُهُ - حَتْمًا - مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْعَدْلِ، فَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى الرُّسُلِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (١٤: ١٣) فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) كَثَّرْنَاهُمْ ; لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقِلَّةَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ لَا تَتَحَقَّقُ عَادَةً إِلَّا إِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْأَكَابِرِ مِنْهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>