للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ رَاجَعْنَا بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرَ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَأَلْفَيْنَاهُ قَدِ اسْتَشْهَدَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَقَالَ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَخَالَفُوا فَدَمَّرْنَاهُمْ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ أَمْرًا قَدَرِيًّا كَمَا قَالَ هُنَا: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَلَّطْنَا شِرَارَهُمْ فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْقَدَرِيِّ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ - مَا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَتَكْوِينِهِ كَمَا

قَالَ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) أَيْ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ لَا أُنُفًا، وَبِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا جُزَافًا.

ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَحْثِ الْعُمُومِ فِي الْآيَةِ فَنَقُولُ: لَوْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ نَصًّا فِي أَنَّ جَمِيعَ أَكَابِرِ كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمُونَ مَاكِرُونَ لَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْ بَابِ الْعُمُومِ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مَنْ يُقَاوِمُونَ دَعْوَةَ الْإِصْلَاحِ وَيُعَادُونَ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ لِيَنْطَبِقَ عَلَى الْوَاقِعِ. وَإِلَّا فَإِنَّ أَكَابِرَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَاكِرِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ كَذَلِكَ.

وَعَلَّلَ الْمُفَسِّرُونَ تَخْصِيصَ الْأَكَابِرِ بِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الْمَكْرِ. وَاسْتِتْبَاعِ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ. يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ " اللَّامَ " فِي قَوْلِهِ: (لِيَمْكُرُوا) لَامَ الْعَاقِبَةِ فَإِنَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا صَارُوا أَكَابِرَ بَلَدٍ وَزُعَمَاءَهُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى مَكَانَتِهِمْ فِيهِ إِلَّا بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ فَيَصِيرُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِمَا.

(وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هَذَا بَيَانُ حَقِيقَةٍ أُخْرَى مِنْ طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ مُتَمِّمَةٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ لِأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمَاكِرِينَ وَالْوَعْدَ وَالتَّسْلِيَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ بِالْإِيجَازِ الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ الْأَذْكِيَاءُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ. وَسَيُصَرَّحُ بِهِ فِي الْآيَاتِ التَّالِيَةِ. وَمَا يَمْكُرُ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ يُعَادُونَ الرُّسُلَ فِي عَصْرِهِمْ وَدُعَاةَ الْإِصْلَاحِ مِنْ وَرِثَتِهِمْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُعَادُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالصَّلَاحَ لِبَقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ ; لِأَنَّ عَاقِبَةَ هَذَا الْمَكْرِ السَّيِّئِ تَحِيقُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَالنُّصُوصُ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ مِنْ نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَهَلَاكِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَمِنْ عُلُوِّ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَدَمْغِهِ لَهُ، وَمِنْ هَلَاكِ الْقُرَى الظَّالِمَةِ الْمُفْسِدَةِ، وَبِمَا أَيَّدَ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِبَارِ، حَتَّى صَارَ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ تَنَازُعَ الْبَقَاءِ يَنْتَهِي بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ وِفَاقًا لِلْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣: ١٧) وَمِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْآيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>