قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُجْرِمِي مَكَّةَ: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (٣٥: ٤٢، ٤٣) - وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا انْفَرَدْنَا بِفَهْمِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَهْطِ قَوْمِ صَالِحٍ الْمُفْسِدِينَ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢٧: ٥٠، ٥١) فَالَّذِينَ كَانُوا يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لِمُقَاوَمَةِ إِصْلَاحِ الرُّسُلِ حِرْصًا عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يُشْعِرُونَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ تَحِيقُ بِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَهُمْ جَدِيرُونَ بِهَذَا الْجَهْلِ، وَأَمَّا أَكَابِرُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَلَّمَا يُقَاوِمُونَ بِمَكْرِهِمْ إِصْلَاحًا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - كَإِصْلَاحِ الرُّسُلِ وَوَرِثَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَيُقَاوِمُوهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَلِيلِ مَكْرُ أَكَابِرِ الِاتِّحَادِيِّينَ الْعُثْمَانِيِّينَ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ فِي الدَّوْلَةِ مِنْ بَقَايَا الشَّرْعِ، وَفِي الْأُمَّةِ مِنْ بَقَاءِ الدِّينِ، وَسُوءُ عَاقِبَتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُمْ، وَعَلَى الْمُشْتَبِهِينَ فِي أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا يَمْكُرُ أَكْثَرُ زُعَمَاءِ الْأُمَمِ الْيَوْمَ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُعَارِضِينَ لَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِمْ فِي الْأُمُورِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَمِنْ خُصُومِهَا فِي السِّيَاسَةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْمَطَامِعِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمَكْرُهُمْ فِي الْغَالِبِ بَاطِلٌ يُصَادِمُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يُسَمَّى حَقًّا عُرْفِيًّا أَوْ سِيَاسِيًّا، فَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ هَذَا الصِّدَامِ حَقٌّ صَحِيحٌ وَوُجِدَ مَنْ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ دَقِيقٌ جِدًّا، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِيهِ مَقَالًا خَاصًّا عُنْوَانُهُ (الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْقُوَّةُ) بَيَّنَّا فِيهِ حَقِيقَتَهُ وَأَنْوَاعَهُ - كَالْحَقِّ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الْوُجُودِ وَسُنَنِ الْكَوْنِ، وَالْحَقِّ فِي السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الْقَوَانِينِ وَالْمُوَاضَعَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَالْحَقِّ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ الْحَقَّ الصَّحِيحَ يَغْلِبُ الْبَاطِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَى وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقِهِ بِشَرْطِهِ، وَحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَعَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ لَهُمْ. وَقَدْ نَشَرْنَا هَذَا الْمَقَالَ فِي الْمُجَلَّدِ (٥٢ م ٩ منار) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute