للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِقَدَرٍ لَا آنِفًا جَدِيدًا غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنِظَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَتِهِ الَّتِي اقْتَضَتِ النِّظَامَ وَالتَّقْدِيرَ، وَتَنَزَّهَ بِهَا عَنِ الْأُنُفِ وَالْجُزَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَلَلِ وَفِيهِ أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ يَقَعُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ ; وَبِهَذَا لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَكَسْبُهُ مُنَافِيًا لِخَلْقِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَا جَاعِلًا لَهُ مُسْتَقِلًّا دُونَهُ - تَعَالَى - مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَوْفِيقِهِ وَإِمْدَادِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ جُعِلَ خَالِقًا لِعِلْمِهِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَحْيِ، تَظْهَرُ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْخَلْقِ.

وَالتَّوْفِيقُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِهَا عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ تَوْفِيقَهُ كَمَا هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، فَيَجْمَعُ لِمَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهِ بَيْنَ مَا جَعَلَهُ فِي مَقْدُورِهِ وَتَنَاوُلِ كَسْبِهِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لَهُ، فَيَتَّفِقُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَالْخُذْلَانِ ضِدُّهُ أَوْ عَدَمُهُ، فَهُوَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ وَلَا يَظْلِمُ اللهُ الْعَبْدَ الْمَخْذُولَ شَيْئًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الشَّيْءُ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ إِيجَابِيَّةً وَتَفْسِيرًا إِيجَابِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ سَلْبِيَّةً. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ مَشْهَدِ التَّوْفِيقِ، وَالْخُذْلَانِ مِنْ كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ) : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ: هُوَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخُذْلَانَ: هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَعْرِيفٌ بِالرَّسْمِ وَاضِحُ الْمَعْنَى فِيمَا قُلْنَاهُ، فَمَعْنَى أَلَّا يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ: هُوَ أَنْ يَمْنَحَكَ فَوْقَ كُلِّ مَا فِي قُدْرَتِكَ وَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُكَ مِمَّا تَعْلَمُ مِنَ الْخَيْرِ لِنَفْسِكَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّجَاحُ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِكَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُكَ وَحْدَكَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ نَفْسِيٌّ وَبَعْضُهُ خَارِجِيٌّ، فَمَعْنَى التَّوْفِيقِ إِيجَابِيٌّ. وَقَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْخُذْلَانِ " أَنْ يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ " مَعْنَاهُ أَلَّا يَمْنَحَكَ شَيْئًا مِنَ الْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكَ، وَلَا تَسْخِيرَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا تَنَالُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِقَدْرِ قُدْرَتِكَ عَلَى مَا تَعْلَمُ وَتُرِيدُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقُدْرَتُكَ لَا تَصِلُ إِلَى كُلِّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ لَكَ، وَعِلْمُكَ غَيْرُ مُحِيطٍ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْخَيْرُ، فَأَنْتَ تَجْهَلُ كَثِيرًا،

وَمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَثِيرًا مَا تَظُنُّ الْجَهْلَ عِلْمًا وَالشَّرَّ خَيْرًا.

وَقَدْ جَاءَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ إِيجَابِيٍّ فَقَالَ: وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ وَيُكَرِّهُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ وَالْعَبْدُ مُحِلٌّ لَهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى. (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٤٩: ٧، ٨) فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ وَأَجَادَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>