(فَصْلٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِسُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ) قَدْ سَبَقَ لَنَا قَوْلٌ قَرِيبٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١٠٨) (ص٦٦٩ ج ٧) رَدَدْنَا فِيهِ عَلَى الْفَخْرِ الرَّازِيِّ إِمَامِ هَذِهِ النَّزْعَةِ وَفَارِسِ هَذِهِ الْحَلْبَةِ، ثُمَّ إِنَّنَا رَأَيْنَاهُ قَدْ عَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى بَسْطِ الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَاسْتَحْسَنَّا أَنْ نَنْقُلَ أَقْوَى كَلَامِهِ وَنُقَفِّيَ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَجِيزٍ فِيهِ قَالَ:
" وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا ; لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ: أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ؟ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ،
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ.
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعَرْضِ وَيَقُولُ: لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ. فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute