للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمِرَاءِ وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِهِ) أَبْدَأُ مَا أُرِيدُ مِنْ بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نَقْلِهِ وَلَوْ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ مَعَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَبِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي مِثْلِ هَذَا وَفِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، ثُمَّ أُفَصِّلُ مَا قَصَدْتُ بَيَانَهُ فِي مَسَائِلَ:

(١) إِنَّ نَظَرِيَّاتِ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَظَرِيَّاتِ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى ابْتِدَاعِ الْكَلَامِ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، كَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ - فَلَمْ يَكُونُوا جَبْرِيَّةً وَلَا قَدَرِيَّةً وَلَا مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيدَتَهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا، وَلَا عَلَى إِنْكَارِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ إِنْكَارِ امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا حُسْنَ فِيهِ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمَا كَانُوا يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يَتَمَارَوْنَ وَيَتَجَادَلُونَ لِإِثْبَاتِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَلَا يُضَلِّلُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ بِلَوَازِمَ يَسْتَنْبِطُونَهَا مِنَ الْمَقَالِ وَلَا يُشَوِّهُونَ رَأْيَهُ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ تُنَافِي الْآدَابَ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَقْلِ الْمُخَالِفِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي نَقْلِ الْمُخَاصِمِ الْمُمَارِي، بَلِ الَّذِي يَجْعَلُ مُخَالِفَهُ خَصْمًا لِلْخَالِقِ! تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ.

(٢) مَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَبَرُّؤُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا، مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوُجُوبَ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتُهَا، فَكَمَا وَجَبَ لَهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْعَقْلِ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ مُتَعَلِّقَاتِهَا كَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦: ٥٤) وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ فَيُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مَسْئُولًا وَلَا مِثْلَهُ، بَلْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ

وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ سَاجِدٌ لَهُ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهِ (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (٥٥: ٣٣) وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ كَذَا وَكَذَا، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (٢١: ٢٣) فَيَدُلُّ نَقْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى إِيجَابَ مَنْ يَكُونُ مُكَلَّفًا مَسْئُولًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ - عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ حَتَّى

<<  <  ج: ص:  >  >>