الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَأَنْ يُنَعِّمَ الشَّيَاطِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ سُلْطَانٌ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُهُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَثَبَتَ لَهُ وَحْدَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خَلْقِهِ، فَهُوَ بِهِ يُحَاسِبُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَعَمَّا كَلَّفَهُمْ إِيَّاهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَالْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ، بَلْ هَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الَّذِي وَهَبَهُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨: ٣٥، ٣٦) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨: ٢٨) وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عِبَارَةً لِعَالِمٍ مُسْتَقِلٍّ فِي هَذَا الْوُجُوبِ لِيُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْعَلَمُ الشَّامِخُ فِي إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمَشَايِخِ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْبَصْرِيَّةُ: مَعْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى: فَإِنْ قُلْتَ فَمِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْقُبْحِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى. قُلْتُ: هُمَا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ، وَالتَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ طَلَبُ الْبَارِئِ تَعَالَى الْفِعْلَ الْمُتَّصِفَ بِالْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِ مَعَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ وَمَعَ إِرَادَةِ الْمُكَلِّفِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا طَلَبٌ، لَيْسَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ إِعْلَامُ الْبَارِئِ الْمُكَلَّفَ شَأْنَ الْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ إِلَخْ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَالتَّكْلِيفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ أَيْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مُضَرَّةٍ وَلَوَازِمُهُ عِنْدَهُمُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَالْعَالِمُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ وَكُلِّ مَفْسَدَةٍ
وَالْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ كَمَا يُرِيدُ هُوَ الْبَارِئُ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي كُتُبِهِمْ شَهِيرٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّجَاسُرُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ هُوَ الَّذِي كَثَّرَ الشِّقَاقَ وَسَلَّى عَنِ الْوِفَاقِ، وَلَا يَخْلُو مَذْهَبٌ مِنْ عَدَمِ إِنْصَافِ الْخَصْمِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا قِلَّةً وَكَثْرَةً إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي أَخْذِ الْمَذَاهِبِ مِنْ كُتُبِهَا لَا مِنْ أَقْوَالِ الْخُصُومِ لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْلِيفِ، وَالْبَصْرِيَّةُ يُوجِبُونَ الثَّوَابَ وَيُحَسِّنُونَ الْعِقَابَ فَقَطْ، وَلِلْبَارِئِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ عَقْلًا وَلُزُومُ الثَّوَابِ وَحُسْنُ الْعِقَابِ هُمَا الْمُحَسِّنَانِ لِلتَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ كَمَا مَضَى، وَمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ. وَالْبَغْدَادِيَّةُ يَقُولُونَ: يَجِبُ الثَّوَابُ وُجُوبَ جُودٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَقْتَضِي تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْحَكِيمِ إِلَى فِعْلِهِ وَمَا خَلُصَ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ، وَمَعَ هَذَا يُطْلِقُونَ أَنَّ الثَّوَابَ تُفَضُّلٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةُ وُجُوبٍ فِي نَفْسِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute