فَاعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فَكَمْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ إِخْوَانُهُمُ الْبَصْرِيُّونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ سَابِقَةُ الْإِنْعَامِ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَيُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ لُطْفٌ لِلْمُكَلَّفِينَ وَاللُّطْفُ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، فَمَذْهَبُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُتَعَاكِسٌ " اهـ.
وَقَدْ أَطَالَ الْمُقْبِلِيُّ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَبْحَثِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَرْجَعَ كَلَامَ الْبَغْدَادِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى كَلَامِ الْبَصْرِيَّةِ. وَأَيْضًا فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّازِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ وَفُرُوعِهِ وَلَا سِيَّمَا زَعْمُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ إِلَّا بِالْقَوْلِ بِالْجَبْرِ أَوِ بِالْتِزَامِ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ وَهُوَ مَا يُكَرِّرُهُ فِي تَفْسِيرِهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَبْحَثِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَرَدَّ فِيهِ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مُطْلَقًا، أَيْ حَتَّى الشَّرْعِيِّينَ ; لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ لَيْسَ فِيهِ حُسْنٌ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا حُسْنُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَكَانَ قَبِيحًا، وَفِي الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(٣) الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَشَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّرَاجِمِ لِلْأَشَاعِرَةِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ مُشَافَهَةً وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرَ الرَّازِيُّ مِنْ تَوَسُّطِ الْعَجُوزِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْمُقْبِلِيُّ بِالِاخْتِصَارِ ثُمَّ قَالَ:
فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ هَوَسٌ، وَأَدْنَى الْمُعْتَزِلَةِ - فَضْلًا عَنْ شَيْخِهِمْ - يَقُولُ مِنْ جَوَابِ اللهِ
عَلَى الصَّغِيرِ: فَضْلِي أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ أَشَاءُ كَمَا كَانَ جَوَابُ اللهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تُفَضُّلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ - وَهُمُ الْبَغْدَادِيَّةُ - إِنَّ التَّكْلِيفَ وَاجِبٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ جُودٍ لَا نَعْتَرِضُ عَلَى تَارِكِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ خَلُّوُّهَا عَنِ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ سَاقِطٌ إِجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ مُطْلَقًا إِنَّمَا يَكُونُ لِمُخَالَفَةِ مَا يَنْبَغِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِينَا أَنَّا خَالَفْنَا الْقَادِرَ الَّذِي جَعَلَ مُخَالَفَتَهُ عَلَّامَةَ عُقُوبَتِهِ، لَا لِأَنَّهُ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُمْتَثَلَ أَمْرُهُ فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّحْسِينِ الَّذِي نَفَوْهُ، وَلَكِنْ لِخَوْفِ ضَرَرِهِ الَّذِي نَصَبَ الْوَعِيدَ عَلَامَةً لَهُ فَكُلُّنَا عَبْدُ الْعَصَا. وَأَمَّا عِنْدُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ فَكُلُّ جُزْئِيٍّ نَرَاهُ نُدْخِلُهُ فِي الْكُلِّيَّةِ، إِنْ عَرَفْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا فَفَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَإِلَّا فَنَحْنُ فِي سَعَةٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَعِلْمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَكَيْفَ يَتَمَشَّى الِاعْتِرَاضُ؟ أَمَّا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ فَلِأَنَّهُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ النَّطْعِ وَالسَّيْفِ، وَأَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute