وَالسُّجُودِ فِيهَا، وَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِنَا بِهِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِحِكْمَةِ الطَّبِيبِ فِي تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَمَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ لِلشَّيْطَانِ إِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ السُّكَارَى وَالْمُقَامِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَمَعَ غَيْرِهِمْ، وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ قَبَائِحُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ وَحِكْمَةٍ وَسُنَنٍ لَا أُنُفًا وَلَا جُزَافًا وَلَا عَبَثًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ شَيْئًا عَبَثًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، يُرَجِّحُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ النَّظَرِيِّ وَشُعُورِهِ الْوِجْدَانِيِّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِ مَا يُؤْلِمُهُ وَلَا يُلَائِمُ هَوَاهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تُسْنَدُ إِلَيْهِ وَيُوَصَفُ بِهَا لِأَنَّهَا تَقُومُ بِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَا لِأَنَّهُ مَحِلُّهَا، وَتُنْسَبُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْمُعْطِي لَهُ هَذَا التَّصَرُّفَ وَالِاخْتِيَارَ، وَالْهَادِي لَهُ إِلَى السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ، وَالْخَالِقُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ، بِحَيْثُ يُشْتَقُّ لَهُ الْوَصْفُ مِنْهُ فَيُقَالُ: أَكَلَ زِيدٌ فَهُوَ آكِلٌ، وَصَلَّى عَمْرٌو فَهُوَ مُصَلٍّ، وَسَرَقَ بَكْرٌ فَهُوَ سَارِقٌ، وَلَا يُقَالُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَارِئِ تَعَالَى.
وَلَا يَخْلُقُ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا قَبِيحًا وَلَا شَرًّا بَلْ هُوَ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) فَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الشَّرُّ وَالْقَبِيحُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ، وَيُوصَفُ بِهِمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ، فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَلَمٌ أَوْ ضَرَرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ يُسَمُّونَهُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَنْ هَدَمَ الْمَطَرُ أَوْ فَيَضَانُ النِّيلِ دَارَهُ يُعَدُّ شَرًّا لَهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ شَرًّا لَهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَبْدَئِهِ، وَيَكُونُ خَيْرًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي الْغَايَةِ. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢٤: ١١) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٢: ٢١٦) وَقَالَ فِيمَنْ يَكْرَهُونَ نِسَاءَهُمْ: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (٤: ١٩) وَأَعْظَمُ هَذَا الْخَيْرِ وِلَادَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ، وَلَكِنْ جَمِيعُ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ شَرًّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ يَقَعُ بِقَدَرِ اللهِ وَوِفَاقِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَرَبْطِ أَسْبَابِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute