الْآخَرِينَ إِلَى الْآخَرِ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْأَخْذِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ. غَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَغَلَتِ الْجَبْرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ جَوَّزُوا أَنْ تَخْلُوَ الْمَشِيئَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَأُولَئِكَ قَيَّدُوا مَشِيئَةَ الرَّبِّ بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُؤْمِنُ بِالصِّفَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَنِزَاعُهُمُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْغُلَاةُ فِي إِثْبَاتِهَا قَالُوا: إِنَّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا حَسَنًا أَوْ قُبْحًا ذَاتِيًّا يُعْرَفُ
بِالْعَقْلِ وَيَأْتِي الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ كَاشِفًا لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِالنَّهْيِ كَاشِفًا لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ حَسَنًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَلَا قَبِيحًا بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ وَالْغُلَاةُ فِي نَفْيِهَا قَالُوا: لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ ذَاتِيًّا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ وَسَبَبَهُ وَسَبَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالشَّرْعِ وَحْدَهُ، فَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لَا حُسْنَ فِيهَا لِذَاتِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِهَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ وَالسُّكْرُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلْ عُرِفَ قُبْحُهَا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّبُّ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَيَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوْرُ وَالْكَذِبُ حَسَنًا وَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ قَبِيحًا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ فِي الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَدِلُونَ الْجَامِعُ بَيْنَ النُّصُوصِ: أَنَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا فَلَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحِكْمَتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَشِيئَتِهِ بِمَا نَفْهَمُهُ وَنَعْقِلُهُ نَحْنُ مِنْهَا بِحَيْثُ نُوجِبُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَحْظُرُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا هُوَ قَبِيحٌ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (١٦: ٩٠) وَقَالَ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٢٨) وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ فِيهِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَلِأَجْلِهِ نَهَى عَنْهُ وَحُسْنُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِهِ لِمَحْضِ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنَّ حُسْنَهَا لَيْسَ فِي ذَاتِهَا بَلْ فِي شَيْءِ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْهُ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ. وَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ تَعَبُّدِيَّةً، فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهَا، فَحُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذِكْرٌ وَمُرَاقَبَةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُسْنَهُ فِي ذَاتِهِ كَعَدَدِ
الرَّكَعَاتِ وَالرُّكُوعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute