للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاسْتَمَرَّ الْأَشْقِيَاءُ مَعَ تَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَنَقْلِهَا مِمَّا خُلِقَتْ عَلَيْهِ إِلَى ضِدِّهِ حَتَّى اسْتَحْكَمَ الْفَسَادُ وَتَمَّ التَّغْيِيرُ، فَاحْتَاجُوا فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ آخَرَ وَتَطْهِيرٍ يَنْقُلُهُمْ إِلَى الصِّحَّةِ حَيْثُ لَمْ تَنْقُلْهُمْ آيَاتُ اللهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَخْلُوقَةُ وَأَقْدَارُهُ الْمَحْبُوبَةُ وَالْمَكْرُوهَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَأَتَاحَ لَهُمْ آيَاتٍ وَأَقْضِيَةً وَعُقُوبَاتٍ فَوْقَ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا تَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ الْخُبْثَ وَالنَّجَاسَةَ الَّتِي لَا تَزُولُ بِغَيْرِ النَّارِ، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ الْعَذَابِ وَسَبَبُهُ زَالَ الْعَذَابُ وَبَقِيَ مُقْتَضَى الرَّحْمَةِ لَا مَعَارِضَ لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حَقٌّ وَلَكِنَّ سَبَبَ التَّعْذِيبِ لَا يَزُولُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ عَارِضًا كَمَعَاصِي الْمُوَحِّدِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَازِمًا كَالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَإِنَّ أَثَرَهُ لَا يَزُولُ كَمَا لَا يَزُولُ

السَّبَبُ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (٦: ٢٨) فَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ نُفُوسَهُمْ وَطَبَائِعَهُمْ لَا تَقْتَضِي غَيْرَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَأَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (١٧: ٧٢) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ضَلَالَهُمْ وَعَمَاهُمْ عَنِ الْهُدَى دَائِمٌ لَا يَزُولُ حَتَّى مَعَ مُعَايَنَةِ الْحَقَائِقِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَى وَالضَّلَالُ لَا يُفَارِقُهُمْ فَإِنَّ مُوجِبَهُ وَأَثَرَهُ، وَمُقْتَضَاهُ لَا يُفَارِقُهُمْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٨: ٢٣) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ لَمَا ضَيَّعَ عَلَيْهِمْ أَثَرَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ هُنَاكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: " أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ " فَلَوْ كَانَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ لَخَرَجُوا مِنْهَا مَعَ الْخَارِجِينَ.

قِيلَ: لَعَمْرُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَمِنْ أَقْوَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قُلْتُمْ، وَإِنَّ الْعَذَابَ يَدُومُ بِدَوَامِ مُوجِبِهِ وَسَبَبِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي عَمًى وَضَلَالٍ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَبَوَاطِنُهُمْ خَبِيثَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِمْ دَائِمٌ مَا دَامُوا كَذَلِكَ.

وَلَكِنْ هَلْ هَذَا الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْخُبْثُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُمْ زَوَالُهُ مُسْتَحِيلٌ أَمْ هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ طَارِئٌ عَلَى الْفِطْرَةِ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ؟ هَذَا حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ زَوَالِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِفِيَّةِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ اجْتَالَتْهُمْ عَنْهَا، فَلَمْ يَفْطِرْهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا فَطَرَ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ عَلَى طَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِخَالِقِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَقُّ الَّذِي فُطِرُوا عَلَيْهِ وَخُلِقُوا عَلَيْهِ قَدْ أَمْكَنَ زَوَالُهُ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الْبَاطِلِ، فَإِمْكَانُ زَوَالِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الْبَاطِلِ بِضِدِّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>