للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْحَقِّ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوَا عَنْهُ. وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ لَا تَزُولُ وَلَا تَتَبَدَّلُ بِنَشْأَةٍ أُخْرَى يُنْشِئُهُمْ فِيهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَخَذَتِ النَّارُ مَأْخَذَهَا مِنْهُمْ وَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَإِنَّ الْعَذَابَ لَمْ يَكُنْ سُدًى وَإِنَّمَا كَانَ لِحِكْمَةٍ مَطْلُوبَةٍ. فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّعْذِيبِ أَمْرٌ يُطْلَبُ وَلَا غَرَضٌ يُقْصَدُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ

لَيْسَ يَشْتَفِي بِعَذَابِ عِبَادِهِ كَمَا يَشْتَفِي الْمَظْلُومُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَهُوَ لَا يُعَذِّبُ عَبْدَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُهُ طُهْرَةً لَهُ وَرَحْمَةً بِهِ فَعَذَابُهُ مَصْلَحَةً لَهُ وَإِنْ تَأَلَّمَ بِهِ غَايَةَ التَّأَلُّمِ، كَمَا أَنَّ عَذَابَهُ بِالْحُدُودِ فِي الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ لِأَرْبَابِهَا، وَقَدْ سَمَّى اللهُ سُبْحَانَهُ الْحَدَّ عَذَابًا وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَعْلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً يُنَاسِبُهُ، وَدَوَاءُ الدَّاءِ الْعُضَالِ يَكُونُ مِنْ أَشَقِّ الْأَدْوِيَةِ، وَالطَّبِيبُ الشَّفِيقُ يَكْوِي الْمَرِيضَ بِالنَّارِ كَيًّا بَعْدَ كَيٍّ. لِيُخْرِجَ مِنْهُ الْمَادَّةَ الرِّدِيَّةَ الطَّارِئَةَ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَإِنْ رَأَى قَطْعَ الْعُضْوِ أَصْلَحَ لِلْعَلِيلِ قَطَعَهُ وَأَذَاقَهُ أَشَدَّ الْأَلَمِ، فَهَذَا قَضَاءُ الرَّبِّ وَقَدَرُهُ فِي إِزَالَةِ مَادَّةٍ غَرِيبَةٍ طَرَأَتْ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مَوَادٌّ فَاسِدَةٌ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ.

وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ شَرْعَ الرَّبِّ وَقَدَرَهُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ فِي الْآخِرَةِ وَجَدَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ التَّنَاسُبِ وَالتَّوَافُقِ وَارْتِبَاطِ ذَلِكَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ; فَإِنَّ مَصْدَرَ الْجَمِيعِ عَنْ عِلْمٍ تَامٍّ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَرَحْمَةٍ سَابِغَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَمُلْكُهُ مُلْكُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَعَدْلٍ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ - أَنَّ عُقُوبَتَهُ لِلْعَبْدِ لَيْسَتْ لِحَاجَتِهِ إِلَى عُقُوبَتِهِ، وَلَا لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَأَلَمٍ يَزُولُ عَنْهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَيَتَنَزَّهُ كَمَا يَتَعَالَى عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ. وَلَا هِيَ عَبَثٌ مَحْضٌ خَالٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْغَايَةِ الْحَمِيدَةِ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَالَى عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ نَعِيمِ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَشْقِيَاءِ وَمُدَاوَاتِهِمْ، أَوْ لِهَذَا وَلِهَذَا، وَعَلَى التَّقَارِيرِ الثَّلَاثَةِ فَالتَّعْذِيبُ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ لَا قَصْدَ الْغَايَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَسِيلَةِ إِذَا حَصَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ زَالَ حُكْمُهَا، وَنَعِيمُ أَوْلِيَائِهِ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي كَمَالِهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَذَابِ أَعْدَائِهِ وَدَوَامِهِ. وَمَصْلَحَةُ الْأَشْقِيَاءِ لَيْسَتْ فِي الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ التَّعْذِيبِ مَصْلَحَةً لَهُمْ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ - أَنَّ رِضَاءَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَحِمَتَهُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ لَهُ فَلَا مُنْتَهَى لِرِضَاهُ، بَلْ كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ " سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَاءَ نَفْسِهِ وَزِنَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>