عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " فَإِذَا كَانَتْ رَحْمَتُهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ فَإِنَّ رِضَى نَفْسِهِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ، فَإِنَّ رِضْوَانَهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَنَعِيمِهَا وَكُلِّ مَا فِيهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُحِلُّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانَهُ فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا. وَأَمَّا غَضَبُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَخَطُهُ
فَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ انْفِكَاكُهُ عَنْهَا بِحَيْثُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضْبَانَ، وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي صِفَةِ الْغَضَبِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَسَائِرِ أَفْعَالِهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ غَيْرِ قَائِمٍ بِهِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ مُفَارَقَتُهَا لَهُ، وَالْعَذَابُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ صِفَةِ غَضَبِهِ وَمَا سُعِّرَتِ النَّارُ إِلَّا بِغَضَبِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقًا مِنْ غَضَبِهِ وَأَسْكَنَهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَيَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ عَصَاهُ) فَمَخْلُوقَاتُهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبِالرَّحْمَةِ، وَنَوْعٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الْغَضَبِ وَبِالْغَضَبِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ عَنْ تَقْدِيرِ خِلَافِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَنْتَقِمُ وَيَعْفُو، بَلْ هَذَا مُوجِبُ مُلْكِهِ الْحَقِّ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُلْكِ الْمَقْرُونِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَمْدِ، فَإِذَا زَالَ غَضَبُهُ سُبْحَانَهُ وَتَبَدَّلَ بِرِضَاهُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ وَتَبَدَّلَتْ بِرَحْمَتِهِ فَانْقَلَبَتِ الْعُقُوبَةُ رَحْمَةً، بَلْ لَمْ تَزَلْ رَحْمَةً وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَتُهَا وَصُورَتُهَا كَمَا كَانَ عُقُوبَةُ الْعُصَاةِ رَحْمَةً وَإِخْرَاجُهُمْ مِنَ النَّارِ رَحْمَةً، فَتَقَلَّبُوا فِي رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَقَلَّبُوا فِيهَا فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةُ يُحِبُّونَهَا وَتُوَافِقُ طَبَائِعَهُمْ، وَهَذِهِ رَحْمَةٌ يَكْرَهُونَهَا وَتَشُقُّ عَلَيْهِمْ كَرَحْمَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يُبْضِعُ لَحْمَ الْمَرِيضِ وَيُلْقِي عَلَيْهِ الْمَكَاوِيَ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْمَوَادَّ الرَّدِيَّةَ الْفَاسِدَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اعْتِبَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْعَلِيلِ وَهُوَ يُحِبُّهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَنْشَأْ فِعْلُهُ بِهِ عَنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يُسَمَّى عُقُوبَةً، وَأَمَّا عَذَابُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِغَضَبِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ. (قِيلَ) : هَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَهَذَا كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ وَرَحْمَةٌ وَتَخْفِيفٌ وَطُهْرَةٌ فَالْحُدُودُ طُهْرَةٌ لِأَهْلِهَا وَعُقُوبَةٌ، وَهُمْ لَمَّا أَغْضَبُوا الرَّبَّ تَعَالَى وَقَابَلُوهُ بِمَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ وَعَامَلُوهُ أَقْبَحَ الْمُعَامَلَةِ، وَكَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَجَعَلُوا أَقَلَّ أَهْلِهِ وَأَخْبَثَهُمْ وَأَمْقَتَهُمْ لَهُ نِدًّا لَهُ وَآلِهَةً مَعَهُ، وَآثَرُوا رِضَاءَهُمْ عَلَى رِضَاهُ وَطَاعَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ - وَهُوَ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقُّ - اشْتَدَّ مَقْتُهُ لَهُمْ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُ خِلَافِهَا وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَخَلُّفُ آثَارِهَا وَمُقْتَضَاهَا عَنْهَا، بَلْ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِأَحْكَامِهَا، كَمَا أَنَّ نَفْيَهَا عَنْهُ تَعْطِيلٌ لِحَقَائِقِهَا، وَكِلَا التَّعْطِيلَيْنِ مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ. فَالْمُعَطِّلُونَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا عَطَّلَ صِفَاتِهِ، وَالثَّانِي عَطَّلَ أَحْكَامَهُ
وَمُوجَبَاتِهَا، وَكَانَ هَذَا الْعَذَابُ عُقُوبَةً لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَدَوَاءً لَهُمْ مِنْ وُجْهَةِ الرَّحْمَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute