السَّابِقَةِ لِلْغَضَبِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَإِذَا زَالَ الْغَضَبُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ وَزَالَتِ الْمَادَّةُ الْفَاسِدَةُ بِتَغْيِيرِ الطَّبِيعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا فِي الْجَحِيمِ بِمُرُورِ الْأَحْقَابِ عَلَيْهَا، وَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أَوْجَبَتِ الْعُقُوبَةَ عَمِلَتِ الرَّحْمَةُ عَمَلَهَا وَطَلَبَتْ أَثَرَهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ.
(يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) وَهُوَ أَنَّ الْعَفْوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالرَّحْمَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالرِّضَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ، وَالْفَضْلَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَلِهَذَا ظَهَرَتْ آثَارُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ لِعِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ وَلَهُ خَلْقُ الْخَلْقِ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ صَالِحَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا قُصُورَ فِيهَا بِوَجْهٍ مَا، وَتِلْكَ الْمَوَادُّ الرَّدِيَّةُ الْفَاسِدَةُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَبِيَدِهِ سُبْحَانَهُ الشِّفَاءُ التَّامُّ وَالْأَدْوِيَةُ الْمُوَافِقَةُ لِكُلِّ دَاءٍ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالرَّحْمَةُ السَّابِغَةُ وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ، وَبِالْعَبْدِ أَعْظَمُ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُدَاوِي عِلَّتَهُ الَّتِي بَلَغَتْ بِهِ غَايَةَ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَنَّ دَوَاءَهُ بِيَدِ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ وَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَكَانَ لَهُ وَانْكَسَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلَّ لِعِزَّتِهِ، وَعَرَفَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الظَّلُومُ الْجَهُولُ، وَأَنَّ رَبَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَامَلَهُ بِكُلِّ عَدْلِهِ لَا بِبَعْضِ عَدْلِهِ، وَأَنَّ لَهُ غَايَةَ الْحَمْدِ فِيمَا فَعَلَ بِهِ، وَأَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الَّذِي أَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَوْصَلَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ ذَلِكَ مَحْضُ فَضْلِ اللهِ وَصَدَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ حَقِّهِ فَنَفْسُهُ أَوْلَى بِكُلِّ ذَمٍّ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَرَبُّهُ تَعَالَى أَوْلَى بِكُلِّ حَمَدٍ وَكَمَالٍ وَمَدْحٍ، فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْجَحِيمِ شَهِدُوا نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ وَرَحْمَتَهُ وَكَمَالَهُ وَحَمْدَهُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ فَطَلَبُوا مَرْضَاتَهُ وَلَوْ بِدَوَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ رِضَاكَ فَرِضَاكَ الَّذِي نُرِيدُ، وَمَا أَوْصَلَنَا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا طَلَبُ مَا لَا يُرْضِيكَ، فَأَمَّا إِذَا أَرْضَاكَ هَذَا مِنَّا فَرِضَاكَ غَايَةُ مَا نَقْصِدُهُ (وَمَا لِجُرْحٍ إِذَا أَرْضَاكَ مِنْ أَلَمٍ) وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ عَاقَبْتَ أَوْ عَفَوْتَ، لَانْقَلَبَتِ النَّارُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا (وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ) فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَأْتِي أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا
أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا " (وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute