لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْقُوفِ حُكْمُهَا عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ، فَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَقْتَضِ الدَّوَامَ، وَإِنْ سَلَكْتَ طَرِيقَ الْمَشِيئَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تُعَلَّلُ لَمْ تَقْتَضِهِ أَيْضًا، وَإِنْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ - أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِي الْمُعَذَّبِينَ، فَإِنَّهُ أَنْشَأَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَبَّاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِرَحْمَتِهِ.
وَأَسْبَابُ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ، وَخَلَقَهُمْ عَلَى خِلْقَةٍ تَكُونُ رَحْمَتُهُ إِلَيْهِمْ أَقْرَبَ مِنْ غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ ; وَلِهَذَا تَرَى أَطْفَالَ الْكُفَّارِ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ فَمَنْ رَآهُمْ رَحِمَهُمْ، وَلِهَذَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ فَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فِيهِمْ فَكَانَتْ هِيَ السَّابِقَةَ إِلَيْهِمْ، فَفِي كُلِّ حَالٍ هُمْ فِي رَحْمَتِهِ فِي حَالِ مُعَافَاتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمْ. وَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ السَّابِقَةَ فِيهِمْ لَمْ يَبْطُلْ أَثَرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ عَارَضَهَا أَثَرُ الْغَضَبُ وَالسُّخْطِ فَذَلِكَ لِسَبَبٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا أَثَرُ الرَّحْمَةِ فَسَبَبُهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَا مِنْهُ يَقْتَضِي رَحْمَتَهُمْ، وَمَا مِنْهُمْ يَقْتَضِي عُقُوبَتَهُمْ، وَالَّذِي مِنْهُ سَابِقٌ وَغَالِبٌ. وَإِذَا كَانَتْ رَحْمَتُهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ فَلِأَنْ يَغْلِبَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ أَثَرَ الْغَضَبِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الْعَذَابِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ، وَلَا يُخْبِرُ عَنِ النَّعِيمِ أَنَّهُ نَعِيمُ يَوْمٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَقْدِيرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْمُعَذَّبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الْعَذَابِ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَذَابَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرَدْ بِهِ اللهُ فَالْعَذَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلْآخِرَةِ وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلَا عَذَابَ عَلَيْهِ، وَالدُّنْيَا قَدْ جُعِلَ
لَهَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَمَا انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى تِلْكَ الدَّارِ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ الْمُعَذَّبُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَفْنَى وَلَا يَزُولُ فَيَدُومُ بِدَوَامِ الْمُرَادِ بِهِ، فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً لَا تَزُولُ لَمْ يَزُلْ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ الْفَانِيَةِ فَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللهِ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ بِزَوَالِ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ، فَإِذَا اضْمَحَلَّتِ الدُّنْيَا وَانْقَطَعَتْ أَسْبَابُهَا وَانْتَقَلَ مَا كَانَ فِيهَا لِغَيْرِ اللهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالذَّوَاتِ وَانْقَلَبَ عَذَابًا وَآلَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ يَدُومُ بِدَوَامِهِ بِخِلَافِ النَّعِيمِ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ - أَنَّهُ لَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute