للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ " فَالِابْتِلَاءُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ (وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: " أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ " فَالْبَلَاءُ وَالْعُقُوبَةُ أَدْوِيَةٌ قُدِّرَتْ لِإِزَالَةِ أَدْوَاءٍ لَا تَزُولُ إِلَّا بِهَا وَالنَّارُ هِيَ الدَّوَاءُ الْأَكْبَرُ، فَمَنْ تُدَاوَى فِي الدُّنْيَا أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الدَّوَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّوَاءِ بِحَسَبِ دَائِهِ. وَمَنْ عَرَفَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصِفَاتِ جَلَالِهِ وَنُعُوتِ كَمَالِهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَغِنَاهُ وَجُودِهِ، وَتَحَبُّبِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَإِرَادَتِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ وَسَبْقِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، لَمْ يُبَادِرْ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَبُولِهِ.

يُوَضِّحُهُ (الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) أَنَّ أَفْعَالَهُ سُبْحَانَهُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْعَدْلِ، فَلَا يَفْعَلُ عَبَثًا وَلَا جَوْرًا وَلَا بَاطِلًا، بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُنَزَّهُ عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَتَعْذِيبُهُمْ إِنْ كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ الْخُبْثُ وَتَكْمُلَ الطَّهَارَةُ فَظَاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ زَالَ الْعَذَابُ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ دَوَامُ الْعَذَابِ أَبَدَ الْآبَادِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَائِمًا بِدَوَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ فَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَلَيْسَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي بَقَائِهِمْ فِي الْعَذَابِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تَعُودُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي نَعِيمِهِمْ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَأْبِيدَ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ نَعِيمُ أَوْلِيَائِهِ وَكَمَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ

وَأَزْوَاجِهِمْ فِي الْعَذَابِ السَّرْمَدِ. فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ قُلْتُمْ مَا لَا يُعْقَلُ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَلَا تُطْلَبُ لَهُ حِكْمَةٌ وَلَا غَايَةٌ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالَمِينَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ مُعَطَّلَةً عَنِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَدِلَّةُ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَالْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ إِبْقَاؤُهُمْ فِي الْعَذَابِ وَانْقِطَاعُهُ عَنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَشِيئَتِهِ سَوَاءً، وَلَمْ يَكُنْ فِي انْقِضَائِهِ مَا يُنَافِي كَمَالَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُخْبِرْنَا بِأَبَدِيَّةِ الْعَذَابِ وَأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>