للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كِتَابِهِ وَالْغَوْصِ عَلَى دُرَرِ حِكَمِهِ فِي أَحْكَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي أَقْدَارِهِ وَالْإِفْصَاحِ عَنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَخَفِيِّ لُطْفِهِ وَجَلِيلِ إِحْسَانِهِ، مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ فِيمَا نَعْلَمُ سَابِقٌ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِهِ لَاحِقٌ، فَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا يُكَافِئُ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَالْعَارِفِينَ الْكَامِلِينَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا وَإِيَّاهُ فِي ثُلَّةِ الْمُقَرَّبِينَ آمِينَ.

وَقَدْ أَشَارَ إِلَى بَحْثِهِ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمُؤَلِّفِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ بِنَصِّهِ عَلَى طُولِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي نَوَّهْنَا بِهَا، وَلِأَمْرٍ آخَرَ أَهَمَّ وَهُوَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَى شُبَهَاتِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ عَلَى الدِّينِ قَوْلُ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ وَحْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُعَذِّبُونَ عَذَابًا شَدِيدًا دَائِمًا لَا يَنْتَهِي أَبَدًا، بَلْ تَمُرُّ أُلُوفُ الْأُلُوفِ الْمُكَرَّرَةِ مِنَ الْأَحْقَابِ وَالْقُرُونِ وَلَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً وَقُوَّةً وَامْتِدَادًا، مَعَ قَوْلِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ - إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ الْعَطُوفِ الرَّءُومِ بِوَلَدِهَا الْوَحِيدِ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءًا صَغِيرًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْبَحْثُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُزِيلَ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِدُّونَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى مُذْعِنِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ رَاجِينَ رَحْمَتَهُ خَائِفِينَ عِقَابَهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ - فَمَا أَعْظَمَ ثَوَابَ ابْنِ الْقَيِّمِ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ حَمَلُوا الْخُلُودَ وَالْأَبَدَ اللُّغَوِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْكَلَامِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَامُلِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فِي عَالَمِهِمْ كَمَا يَقْصِدُ أَهْلُ كُلِّ لُغَةٍ فِي أَوْضَاعِ لُغَتِهِمْ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ الْخُلُودَ فِي الْإِقَامَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَيُسَمُّونَ الْأَثَافِيَّ (حِجَارَةَ الْمَوْقِدِ) الْخَوَالِدَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِحَالَةَ الِانْتِقَالِ وَالنَّقْلِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَيُعَبِّرُونَ بِالْأَبَدِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَنَاهِيكَ بِتَدْقِيقِهِ فِي تَحْدِيدِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ، وَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ. وَتَقُولُ: رَزَقَكَ اللهُ عُمْرًا طَوِيلَ الْآبَادِ بَعِيدَ الْآمَادِ. فَهَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْتَهِي؟ ! وَيَقُولُ أَهْلُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُهُمْ فِي زَمَانِنَا حُكِمَ عَلَى فُلَانٍ بِالسَّجْنِ الْمُؤَبَّدِ أَوِ الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ - وَهُوَ لَا يُنَافِي عِنْدَهُمُ انْتِهَاءَهَا بِعَفْوِ السُّلْطَانِ مَثَلًا.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَدْ يَنْفَعُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَارِقِينَ وَلَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ مُسْتَدِلِّينَ أَوْ مُقَلِّدِينَ، وَسَنَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ آيَتَيْ سُورَةِ هُودٍ، وَنُلَخِّصُ جَمِيعَ التَّأْوِيلَاتِ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا وَالْمَرْجُوحِ وَدَلَائِلِ الْجُمْهُورِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>