للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ لِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمُ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ. وَيُظْهِرَ لَهُمْ حُكْمَهُ الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ حُكْمٍ فِي أَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ حُكْمًا يَحْمَدُونَهُ هُمْ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، بِحَيْثُ يَنْطِقُ الْكَوْنُ كُلُّهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣٩: ٧٥) فَحَذَفَ فَاعِلَ الْقَوْلِ لِإِرَادَةِ الْإِطْلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَاطِقٍ وَقَلْبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ دَخَلُوا النَّارَ وَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لِمُمْتَلِئَةٌ مِنْ حَمْدِهِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ سَبِيلًا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَسَّنَ حَذْفَ الْفَاعِلِ مِنْ قَوْلِهِ: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) (٣٩: ٧٢) حَتَّى كَأَنَّ الْكَوْنَ جَمِيعَهُ قَائِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ إِذْ هُوَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ فِيهِمْ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (٣٩: ٧٣) فَهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهَا بِعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ سُبْحَانَهُ مَلَائِكَتَهُ وَخَلْقَهُ كُلَّهُمْ حُكْمَهُ الْعَدْلَ وَحِكْمَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَوَضْعَهُ الْعُقُوبَةَ حَيْثُ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَالْخَلِيقَةُ أَنَّهُ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ وَأَحَقُّهَا بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حَمْدِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ الظَّالِمَةَ الْفَاجِرَةَ لَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْسُنُ بِهَا سِوَاهُ بِحَيْثُ تَعْتَرِفُ هِيَ مِنْ ذَوَاتِهَا بِأَنَّهَا أَهْلُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا أَوْلَى بِهِ حَصَلَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا وُجِدَ الشَّرُّ وَمُوجَبَاتُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَتِلْكَ الدَّارِ. وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الشُّرُورَ تَبْقَى دَائِمًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ أَبَدًا، فَتَكُونَ هِيَ وَالْخَيِّرَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. فَهَذَا نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ انْتَهَى قَدَمُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ؟ قِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَإِلَى هُنَا انْتَهَى قَدَمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا حَيْثُ ذَكَرَ دُخُولَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَمَا يَلْقَاهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَقَالَ: ثُمَّ يَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، بَلْ وَإِلَى هَاهُنَا انْتَهَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ فِي الْكِتَابِ كُلِّهِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمَانُّ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ وَرُسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.

هَذَا مَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَفِيهِ مِنْ دَقَائِقَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ تَعَالَى

وَفَهْمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>