فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَعِيدٍ مُطْلَقٍ فَكَيْفَ بِوَعِيدٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِثْنَاءٍ مُعَقَّبٍ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فَهُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَحْدَهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ
يَخْتَصَّ بِالْمُسْتَثْنَى أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِقَوْلِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: (خَالِدِينَ فِيهَا) وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ فَقَالُوا: أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ وَحْدَهُ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَذْكُورٌ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وَهَذَا التَّعْقِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي " الْأَنْعَامِ ": (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فَأَخْبَرَ أَنَّ عَذَابَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَرَفْعَهُ عَنْهُمْ فِي وَقْتٍ يَشَاؤُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ تَجَرُّدُ مَشِيئَتِهِ عَنْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْبَاطِلَةِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قُرْبٍ مِنْ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُمِّرَتْ وَلَا قَامَ لَهَا وُجُودٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) (١٦: ٦١) وَقَالَ: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) (٣٥: ٤٥) فَلَوْلَا سَعَةُ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ لَمَا قَامَ الْعَالَمُ. وَمَعَ هَذَا فَالَّذِي أَظْهَرُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا كَانَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ قَدْ غَلَبَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَنَالَتِ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ بِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ إِغْضَابِ رَبِّهِ وَالسَّعْيِ فِي مُسَاخَطَتِهِ، فَكَيْفَ لَا يَغْلِبُ جَانِبُ الرَّحْمَةِ فِي دَارٍ تَكُونُ الرَّحْمَةُ فِيهَا مُضَاعَفَةً عَلَى مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعَذَابُ مِنَ الْكُفَّارِ مَأْخَذَهُ وَانْكَسَرَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ وَأَنْهَكَهَا الْعَذَابُ وَأَذَابَ مِنْهَا خُبْثًا وَشَرًّا لَمْ يَكُنْ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَحْمَتِهِ لَهَا فِي الدُّنْيَا. بَلْ كَانَ يَرْحَمُهَا مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ بِهَا، فَكَيْفَ إِذَا زَالَ مُقْتَضَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ وَقَوِيَ جَانِبُ الرَّحْمَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الرَّحْمَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَاضْمَحَلَّ الشَّرُّ وَالْخُبْثُ الَّذِي فِيهَا فَأَذَابَتْهُ النَّارُ وَأَكَلَتْهُ؟ ! وَسِرُّ الْأَمْرِ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ أَغْلَبُ وَأَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَسْمَاءِ الِانْتِقَامِ. وَفِعْلَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَظُهُورَ آثَارِ الرَّحْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ آثَارِ الِانْتِقَامِ وَالرَّحْمَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الِانْتِقَامِ. وَبِالرَّحْمَةِ خَلَقَ خَلْقَهُ وَلَهَا خَلَقَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ وَكَتَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمَا خَلَقَ بِهَا فَمَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا خَلَقَ بِالْغَضَبِ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَالْعُقُوبَةُ تَأْدِيبٌ وَتَطْهِيرٌ،
وَالرَّحْمَةُ إِحْسَانٌ وَكَرَمٌ وَجُودٌ، وَالْعُقُوبَةُ مُدَاوَاةٌ. وَالرَّحْمَةُ عَطَاءٌ وَبَذْلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute