للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (٧٢: ٢٣) فَهَذَا وَعِيدٌ مُقَيَّدٌ بِالْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ، مَعَ انْقِطَاعِهِ قَطْعًا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. فَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ الْعَامُّ لِأَهْلِ النَّارِ لَا يَمْتَنِعُ انْقِطَاعُهُ بِسَبَبٍ مِمَّنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمَا يَئِسَ مِنْ رَحْمَتِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلَقَ اللهُ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ".

الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ - أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ صَرِيحًا بِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لَا انْتِهَاءَ لَهُ وَأَنَّهُ أَبَدِيٌّ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ وَعِيدًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَاللهُ تَعَالَى لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ.

وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ كَرَمٌ وَعَفْوٌ وَتَجَاوُزٌ يُمَدَحُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَالْكَرِيمُ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ، فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ " وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيُخْلِفُ اللهُ مَا وَعَدَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ أَوْعَدَهُ اللهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا أَيُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مِنَ الْعُجْمَةِ أُتِيتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ، إِنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ الْوَعِيدِ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا وَلَا خُلْفًا أَنْ تَعِدَ شَرًّا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، تَرَى ذَلِكَ كَرَمًا وَفَضْلًا، وَإِنَّمَا الْخُلْفُ أَنْ تَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا تَفْعَلَهُ، قَالَ: فَأَوْجِدْنِي هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ إِلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ:

وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ سَطْوَتِي ... وَلَا أَخْتَنِي مِنْ صَوْلَةِ الْمُتَهَدِّدِ

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

قَالَ أَبُو الشَّيْخِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ حَقٌّ، فَالْوَعْدُ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ضَمِنَ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا كَذَا أَنْ يُعْطِيَهُمْ كَذَا وَمَنْ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ مِنَ اللهِ؟ وَالْوَعِيدُ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا فَأُعَذِّبَكُمْ فَفَعَلُوا فَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ. وَأَوْلَاهُمَا بِرَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ حِينَ أَوْعَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>