للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ حُذِفَ ذِكْرُ هَذَا النَّصِيبِ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أَيْ فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ: هَذَا لِلَّهِ، أَيْ نَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَفِي الثَّانِي: هَذَا لِشُرَكَائِنَا، أَيْ مَعْبُودَاتُهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ بِزَعْمِهِمْ مَعْنَاهُ بِتَقَوُّلِهِمْ وَوَضْعِهِمُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَلَا هُدًى مِنَ اللهِ ; لِأَنَّ جَعْلَهُ قُرْبَةً لِلَّهِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِهِ وَأَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ دِينٌ، وَإِنَّمَا الدِّينُ لِلَّهِ وَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَمُلْكًا فَغَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لَهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ مِنْ دُعَاءٍ وَصَدَقَةٍ وَذَبَائِحِ نُسُكٍ، وَأَنْ يُطَاعَ غَيْرُهُ طَاعَةَ خُضُوعٍ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا شِرْكٌ جَلِيٌّ. وَمِنْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا أَشْرَكُوا مَعَهُ.

رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ نَصِيبَ اللهِ تَعَالَى لِقِرَى الضِّيفَانِ وَإِكْرَامِ الصِّبْيَانِ

وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَنَصِيبَ آلِهَتِهِمْ لِسَدَنَتِهَا وَقَرَابَتِهَا وَمَا يُنْفَقُ عَلَى مَعَاهِدِهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُرِنَ الْأَوَّلُ بِالزَّعْمِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، دُونَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ وَبَاطِلٌ بَحْتٌ وَبِهِ كَانَ الْأَوَّلُ شِرْكًا فِي الْقِسْمَةِ وَدُونَ جَعْلِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْسِنَهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْعَاقِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَاحْتِيجَ إِلَى قَرْنِهِ بِكَوْنِهِ زَعْمًا مُخْتَرَعًا لَهُمْ لَا دِينًا مُشْتَرَعًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ بِهَذَا بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ فَوْقَ كَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ إِذْ جَعَلُوا مِثْلَهُ لِمَا اتَّخَذُوا لِلَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ مَعَ أَحْكَامٍ أُخْرَى لَهُمْ فِيهِ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْهُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ لَا بِالتَّصَدُّقِ وَلَا بِالضِّيَافَةِ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ يَعْنُونَ بِحِفْظِهِ لَهَا بِإِنْفَاقِهِ عَلَى سَدَنَتِهَا وَذَبْحِ النِّسَائِكِ عِنْدَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ) أَيْ وَمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَهُوَ يُحَوَّلُ أَحْيَانًا إِلَى التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهَا فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ قَبُحَ حُكْمُهُمْ هَذَا أَوْ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ. وَقُبْحُهُ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللهِ بِالتَّشْرِيعِ. وَمِنْهَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ أَدْنَى نَصِيبٍ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا تَرْجِيحُ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِخَالِقِهَا وَخَالِقِهِمْ فِيمَا فُصِّلَ آنِفًا وَهُوَ أَدْنَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ. وَالثَّانِي: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ مَا لِشُرَكَائِهِمْ وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالثَّالِثُ: تَرْجِيحُ مَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّهُ لَا هِدَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعُقُولَ تُدْرِكُ حُسْنَ الْأَحْكَامِ وَقُبْحَهَا وَيُحْتَجُّ بِهَا فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ مَوْرِدُ هَذَا هُوَ الرِّوَايَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ سَخَافَاتٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ الْجَائِرَةِ، اخْتَرْنَا أَنْ نَنْقُلَ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>