وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَطْعِمَةً فَتَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُمُرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْهُ فَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ الْقَوِيَّ فِيهِ، فَهَذَا بَيَانُ بُطْلَانِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا بِالْإِجْمَالِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ فِيهِ قَرِيبٌ. وَمِنْ غَرَائِبِ السَّهْوِ ذِكْرُ الْحَافِظِ أَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِمَّا حُرِّمَ بَعْدَهَا
وَهُوَ فِيهَا.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ نَصًّا فِي التَّحْرِيمِ لِاحْتِمَالِهِ الْكَرَاهَةَ، وَتَرْجِيحُ الِاحْتِمَالِ بِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي الْحِجَازِ، وَلَوْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا فِي غَزْوَةٍ مَشْهُورَةٍ لَنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا النَّهْيَ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ السِّبَاعِ لَا بِتَحْرِيمِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ حَمْلِهِ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ الْآيَاتُ وَاسْتِبَاحَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَكْلِ السِّبَاعِ إِذْ كَانَ يُحْتَجُّ بِعَمَلِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا - وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ " فَأَكْلُهُ حَرَامٌ " فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَيْ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ فَعَبَّرَ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَحَادِيثَ كَكَثْرَةِ مَرَاسِيلِهِ. وَمِمَّا يُعِلُّ بِهِ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ فَقِيهًا وَمَذْهَبُهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَمَا خَالَفَهُ، وَنَاهِيكَ بِمِثْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ. وَحَدِيثَا جَابِرٍ وَالْعِرْبَاضِ الْمُصَرِّحَانِ بِالتَّحْرِيمِ لَيْسَا صَحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا حُسِّنَا لِمُوَافَقَتِهِمَا لِأَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَذَا وَكَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَمَّا فَهِمَا مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَارِضٌ مُوَقَّتٌ وَفَهِمَ آخَرُونَ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ فَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (يَعْنِي عَدَمَ التَّحْرِيمِ) وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ (قُلْ لَا أَجِدُ) وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ غَيْرِ مَا ذُكِرَ إِذًا فَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةٌ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا حِكَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute