للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِآرَائِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) أَيْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ

وَلَا يُرَدُّ كَوْنُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا قَرَنَتْ بِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِذَا وَرَدَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْآيَةَ حَاصِرَةً لِمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ إِبَانَةَ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقَّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَخْصِيصِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا أَقْوَى وَأَوْسَعُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنِ الْآيَةِ قَدْ لَخَّصَهُ أَحْفَظُ الْحُفَّاظِ وَأَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا، وَكُلُّهُ سَاقِطٌ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِيهِ، وَفِي سُقُوطِهِ أَكْبَرُ حُجَّةٍ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِنْصَافِ، بِزَعْمِ أَنَّ مَشَايِخَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ أَحَاطُوا بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، حَتَّى فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَلَسْنَا نُسْقِطُهُ بِنَظَرِيَّاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَإِنَّمَا نُسْقِطُهُ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ الْبَحْثِ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ - وَذَلِكَ أَظْهَرُ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ - وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ تَقَرَّرَ مَضْمُونُ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا فِي آيَةِ النَّحْلِ الْمَكِّيَّةِ (١٦: ١١٥) وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَتْمًا فَلَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْحَافِظُ آنِفًا عَلَى عِلَّاتِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا نَصْرُ الْمَذْهَبِ لَمَا نَسِيَ الْحَافِظُ هَذَا عِنْدَ النَّقْلِ، وَلَا تَأْيِيدُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ لِلْحَصْرِ فِيهَا وَرَدُّهُ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَهَذَا نَصُّ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢: ١٧٢، ١٧٣) لَفْظُ (إِنَّمَا) يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَا يَأْتِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَكَلَّفُوهَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا حَتَّى جَعَلُوا الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ

الْأُصُولِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ جَرَيَانَهَا فِي الْآيَةِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ عَنِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ، وَفِي آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ بِـ (إِنَّمَا) لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَعَرَّضَ لَهَا، وَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>