أَخَذْتُهَا مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِإِمَامِ عُمُومِ الْبَلَاغَةِ وَوَاضِعِهَا الشَّيْخِ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ فَنُلَخِّصُ قَوْلَهُ فِيهَا مَزِيدًا فِي الْبَيَانِ، وَدَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ:
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) النَّصْبُ فِي الْمَيْتَةِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَيَجُوزُ (إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ " مَا " هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ " إِنَّ " مِنَ الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ لِأَنَّ " إِنَّمَا " تَأْتِي إِثْبَاتًا لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا وَنَفْيًا لِمَا سِوَاهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا لَا يُنَافِيهِ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْحَصْرِ وَأَوْرَدَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ أَوْ لِمَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ. تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ. لَا تَقُولُهُ لِمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُ صِحَّتَهُ وَلَكِنْ لِمَنْ يَعْلَمُهُ وَيُقِرُّ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُنَبِّهَهُ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْأَخِ وَحُرْمَةِ الصَّاحِبِ. . . . . .
وَمِثَالُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (٣٦) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦: ١١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) (٧٩: ٤٥) كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ اسْتِجَابَةٌ إِلَّا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَعْقِلْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِنْذَارًا وَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ إِذَا كَانَ مَعَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَخْشَاهُ وَيُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالسَّاعَةِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ فَالْإِنْذَارُ وَتَرْكُ الْإِنْذَارِ مَعَهُ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ أُخْرَى:
وَأَمَّا الْخَبَرُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوُ: مَا هَذَا إِلَّا كَذَا، وَإِنْ هُوَ إِلَّا كَذَا، فَيَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا مُصِيبٌ، أَوْ مَا هُوَ إِلَّا مُخْطِئٌ - قُلْتَهُ لِمَنْ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا مِنْ بَعِيدٍ فَقُلْتَ: مَا هُوَ إِلَّا زَيْدٌ - لَمْ تَقُلْهُ إِلَّا وَصَاحَبُكَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ وَأَنَّهُ
إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَجِدُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْثِلَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي الْقَاعِدَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (١٤: ١٠) إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ دُونَ " إِنَّمَا " مَعَ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّسُلَ كَأَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ قَدْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ وَادَّعَوْا أَمْرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ هُوَ بَشَرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُخْرِجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَهُ حَيْثُ يُرَادُ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَدَّعِي خِلَافَهُ. ثُمَّ جَاءَ الْجَوَابُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١٤: ١١) كَذَلِكَ بِـ " إِنْ " وَ " إِلَّا " دُونَ " إِنَّمَا " -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute