لِأَنَّ مِنْ حِكَمِ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ خَصْمُهُ الْخِلَافَ فِي أَمْرٍ هُوَ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَنْ يُعِيدَ كَلَامَ الْخَصْمِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَحْكِيهِ كَمَا هُوَ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي مَسَائِلِ " إِنَّمَا " وَصَرَّحَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِأَنْ " إِنَّمَا " تُفِيدُ فِي الْكَلَامِ بَعْدَهَا إِيجَابَ الْفِعْلِ لِشَيْءٍ وَنَفْيَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَطَالَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَشَرْحِهَا كَعَادَتِهِ.
وَهَذَا التَّحْقِيقُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَآيَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ، مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ تَعَالَى. كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ - فَجَاءَ حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مِنَ السُّورَةِ: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (٦: ١١٩) وَلَمْ يُفَسَّرْ بِآيَةِ النَّحْلِ مَعَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ النَّحْلِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ النَّحْلِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى قَاعِدَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهَا الْتِفَاتًا إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْجَحَ مِنْ جَعْلِهَا خَاصَّةً بِخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي السُّورَتَيْنِ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ الَّذِي يَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا نَصُّهُمَا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦: ١١٤، ١١٥) وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّهَا خِطَابٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ قَدْ جَاءَتَا بَعْدَ آيَةٍ فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهِيَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
فَتَكُونُ آيَتَا النَّحْلِ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْبَقَرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَالْإِطْنَابِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْهُودٌ، وَبَيَّنَّا سَبَبَهُ مِنْ قَبْلُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ أُنْزِلَتْ بَيَانًا لِحُكْمِ اللهِ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِهِ. بِمَا كَانُوا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَقَهَا بَيَانٌ مِنَ الْوَحْيِ فِي ذَلِكَ فَجَاءَتْ بِحَصْرِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ النَّحْلِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِهَا فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً وَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فِي سِيَاقِ مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِشُكْرِهَا فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ هِيَ السُّورَةُ الَّتِي خُصَّ أُسْلُوبُهَا بِسَرْدِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ آيَةِ النَّحْلِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَعُبِّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " عَلَى الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَصْرَ كَانَ مَعْرُوفًا وَمُقَرَّرًا بِآيَةِ الْأَنْعَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute