وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ الْمُكَرَّرِ بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ وَمِمَّا سَيَأْتِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَلَا التَّخْصِيصَ، فَهِيَ نَفْسُهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْحِلُّ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَخْصِيصٌ آخَرُ لِذَلِكَ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُنَالِكَ أَخْبَارٌ آحَادٌ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ النَّصِّ وَلَا الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا عَلِمْتَ - وَأَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ - أَحَدُ أَرْكَانِ رُوَاتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِالسُّنَّةِ فِي وَطَنِهَا الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْحِجَازُ - إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَحَدِ فُقَهَائِهَا فَكَيْفَ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ وَبُلِّغَ لِلنَّاسِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فِيهِ وَبَقِيَ إِلَى زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ خَفِيًّا عَنْ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالرِّوَايَةِ؟ وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ وُقُوعَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ حِلِّ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَى حَصْرِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْكِتَابِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَأُنَاسٌ آخَرُونَ بِقُيُودٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ الرَّازِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ بَعْضُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا كَكَوْنِ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وَالنَّسْخُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ عُمُومَ إِبَاحَةِ مَا عَدَا الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالسِّبَاعِ كَانَ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ تَخْصِيصَهُ عِنْدَ إِنْزَالِ آيَةِ الْمَائِدَةِ لَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَمَا أَكَّدَهُ بَعْدَهَا مِرَارًا.
وَقَدْ أَطْنَبَ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الْحَصْرِ وَكَوْنِهَا مُحَكَمَةً بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا وَدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ عَلَيْهَا، وَزَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ التَّحْرِيمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، وَكَوْنُ الْوَحْيِ قَرَّرَ هَذَا الْحَصْرَ، وَأَكَّدَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِيهِ بِآيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ - أَنْ جَعَلَ آيَةَ أَوَّلِ الْمَائِدَةِ مُؤَكِّدَةً لِتَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute