للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ. فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَوْمًا يَخْطُبُنَا فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جُعِلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ إِحْدَى حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دَيْنَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهُ يَعْنِي بُقُولِهِ " أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّ سَلَمَةَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ حَاجَّةً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ.

قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتُخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا اهـ. مَا أَوْرَدَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي (ج١) وَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي بَحْثِ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ (ج٣) فَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الدِّينِ فِيهَا يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَالَ، فَمَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِهَا تَدُلُّ عَلَى شُمُولِهَا لِلتَّفَرُّقِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَحُكُومَتِهِ وَتَوَلِّي أَهْلِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، فَعَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ، كَعَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالتُّرْكِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْمَلَاوِيِّ إِلَخْ بِحَيْثُ يُعَادِي الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوْرَةِ عَلَى عُثْمَانَ - وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَقْتَلِهِ - كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ ذِرَاعَ امْرَأَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْ بَيْنِ الْحَائِطِ وَالسِّتْرِ وَهِيَ تُنَادِي: أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا شِيَعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَاحِدَةٌ.

هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ (فَرَّقُوا) وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَفَرُّقٍ فِي الدِّينِ مُفَارَقَةٌ لَهُ وَرِدَّةٌ عَنْهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ (فَارَقُوا) ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْمُفَارَقَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠: ٣١، ٣٢) وَفِيهَا الْقِرَاءَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>