للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْهُمْ تَحْذِيرُ أُمَّتِهِ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بِالْأَوْلَى لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ كَحُكْمِ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَضِمْنَ لَهُمْ جَنَّتَهُ وَرِضْوَانَهُ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،

أَوْ إِلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ الْمُهْتَدِينَ بِهِمَا مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّقِينَ لِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ:

(إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى وَحْدَهُ أَمْرَ جَزَائِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِمْ وَالتَّفْرِيقِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَفَشَلِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَتَسَلُّطِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَلُبْسِهِمْ شِيَعًا يُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، بِمَا تُثِيرُهُ عَدَاوَةُ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْحُرُوبِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) (٢: ٢٥٣) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (٥: ١٤) وَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) (٦: ٦٥) إِلَخْ وَبَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَبْعَثُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ بِتَفْرِيقِ الدِّينِ، أَوْ مُفَارَقَتِهِ اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.

تَطْبِيقٌ أَوْ طِبَاقٌ فِي أَسْبَابِ افْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ:

(١) السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ.

(٢) عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ.

(٣) عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.

(٤) الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ.

وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>