وَالصُّوفِيِّ وَالْحَكِيمِ، وَكُلُّ مُتَحَزِّبٍ مُجَادِلٍ فَإِنَّمَا يَبْغِي الْعَنَتَ وَتَشْتِيتَ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ مُقَصِّرٍ فَعَلَيْهِ الْعَارُ وَالشَّنَارُ، فَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ، وَاحْذَرْ فَقَدْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَلَا بُدَّ فِي كَمَالِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ تَكْمِيلُ قُوَّةِ النَّظَرِ وَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْهِمَّةِ وَالسَّدَادِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا يَأْخُذُ وَيُعْطِي، فَهُوَ فِي النَّارِ أَوْ يَطْهُرُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ، وَسَالِكُ هَذَا الطَّرِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سُلُوكُهُ مِنْ قِبَلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ أُولِي الْفَضْلِ مِنَ الرَّاشِدِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَلِكَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ الْمُتَوَسِّطُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَكَ
بِنَفْسِهِ مَدَارِجَ الْأَنْوَارِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَسْرَارِ حَتَّى جَلَسَ فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَهُوَ الصُّوفِيُّ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى وَالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا مَرَاتِبُ لَا تُحْصَى وَمَرَاقٍ لَا تُسْتَقْصَى، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا النُّورِ فَلَهُ النَّجَاةُ وَالْحُبُورُ كَانَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَلْنُمْسِكِ الْقَلَمَ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِيجَازُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَاسْلُكْ بِنَفْسِكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَانْظُرْ فِيمَا يَكُونُ لَكَ بِعَيْنِ الرَّشَادِ " اهـ.
بَدْءُ تَفَرُّقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَوَّلُ خِلَافٍ نَجَمَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافَ عَلَى الْإِمَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُ زُعَمَاءِ الْأَنْصَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَكَانَ بَعْضُ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَخَافَ عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بُعْدِ الرَّأْيِ وَالْحَزْمِ أَنْ يَحْدُثَ صَدْعٌ فِي بِنْيَةِ الْأُمَّةِ قَبْلَ دَفْنِ رَسُولِهَا، فَبَادَرَ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْكِرُ مَكَانَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَبَقًا وَعِلْمًا وَفَهْمَا وَنَصْرًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَبِعَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَلَا ذَلِكَ عَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ تَأَخَّرَ فَتَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْأَمْرِ لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ التَّفَرُّقِ الَّذِي بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِاتِّفَاقَ هُوَ سِيَاجُ الدِّينِ وَحِفَاظُهُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ بَايَعُوا عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ تَنَازَلَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى غَيْرِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute