للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢: ١٠٦) وَأَنَّ الْجَزَاءَ عِنْدَ اللهِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ أَوْ مُؤَاخَذَتِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. وَأَنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى سُنَنًا فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ وَاخْتِبَارِهِمْ بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِقَابَ الْمُسِيئِينَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُحْسِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَهْدِمُ أَسَاسَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْوُسَطَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِمْ.

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتِمُ لِلنَّبِيِّنَ لِقَوْمِكَ وَسَائِرِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَهُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ: إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي وَأَوْصَلَنِي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ بِفَضْلِهِ وَاخْتِصَاصِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَذَا غَيْرُهَا إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَتَأْخِيرٍ ; لِأَنَّهُ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (٤٨: ٢) وَهُوَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى طَلَبِهِ مِنْهُ تَعَالَى فِي مُنَاجَاتِكُمْ إِيَّاهُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١: ٦) (دِينًا قِيَمًا) أَيْ إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يَصْلُحُ وَيَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ: فَقَوْلُهُ: (دِينًا) بَدَلٌ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَ (قِيَمًا) صِفَةٌ لَهُ. قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَكَانَ قِيَاسُهُ " قِوَمًا " كَعِوَضٍ وَلَكِنَّهُ أُعِلَّ تَبَعًا لِفِعْلِهِ " قَامَ " كَالْقِيَامِ وَأَصْلُهُ الْقَوَامُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَأَوَاخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الشَّيْءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ (سَيِّدٍ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُسْتَقِيمِ بِزِنَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ بِصِيغَتِهِ وَكَثْرَةِ مَادَّتِهِ وَقِيلَ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ، فَكَانَ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَيِّمًا، أَوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَهْلًا. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (٥: ٩٧) مَا يُفِيدُ الْقَارِئَ تَفْصِيلًا فِيمَا فَسَّرْنَا بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أَيْ أَعْنِي - أَوِ الْزَمُوا - مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ جَمِيعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ وَالْعِوَجِ وَالضَّلَالِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ تُنَافِي الشِّرْكَ، فَفِيهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٣٥) وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

(٣: ٦٧ و٩٥) وَسُورَةِ النَّحْلِ (١٦: ١٢٠ و١٢٣) وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٧٩) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَجَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (٤: ١٢٥) وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ حَنِيفًا هُنَا حَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَقِيلَ: مِنْ إِبْرَاهِيمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>