هَذَا الدِّينُ دِينُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَقَرَّرَهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ هُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ الْعَرَبُ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَّلٌّ يَدَّعِي الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنَ الْعَرَبِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ، مُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ وُصِلَ وَصْفُهُ بِالْحَنِيفِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَكَذَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِادِّعَاءِ اتِّبَاعِهِ وَاتِّبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ الشِّرْكِيَّةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ يَسْرِي إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاحْتِرَاسَ فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣: ٦٧)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي إِرْشَادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (٢٢: ٣٠، ٣١) وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ يُونُسَ: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠: ١٠٥) وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠: ٣٠ - ٣٢) فَهَذَا بِمَعْنَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَسِيَاقِهِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
وَأَمَّا أَمَرُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَا هَدَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَيِّمِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦: ١٢٠ - ١٢٣) فَحِكْمَةُ كُلٍّ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ اسْتِمَالَةُ الْعَرَبِ ثُمَّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِبَيَانِ أَنَّ أَسَاسَهُ وَقَوَاعِدَ عَقَائِدِهِ وَدَعَائِمَ فَضَائِلِهِ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى هُدَاهُ وَجَلَالَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥: ٤٨) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute