للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ، أَيِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رُوَاةُ الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حِكْمَتَهُ سَمَاعُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى لِيَكُونَ آخِرَ مَا تَشْتَغِلُ بِهِ نَفْسُ الْمَيِّتِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (بَابِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَيِّتِ) وَابْنُ مَاجَهْ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِذَا احْتَضَرَ) وَقَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ عِبَارَةِ " عَلَى مَوْتَاكُمْ " أَيِ الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضِرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لِكُلِّ شَيْءٍ قَلَبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس " إِيذَانٌ بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُزَادُ بِهِ قُوَّةُ قَلْبِهِ وَيَشْتَدُّ تَصْدِيقُهُ بِالْأُصُولِ. فَهُوَ إِذًا عَمَلُهُ وَمَهَمُّهُ، قَالَهُ الْقَارِئُ اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرُّوحِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَعُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ بِمَا أَرْبَى بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ نَفَعَنَا اللهُ بِعُلُومِهِ " وَفِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزْنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمُحْتَضِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ". (الثَّانِي) انْتِفَاعُ الْمُحْتَضِرِ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَغِبْطَةِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٣٦: ٢٦، ٢٧) فَيَسْتَبْشِرُ الرُّوحُ بِذَلِكَ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ فَيُحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَلَهَا خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شَيْخِنَا أَبِي الْوَقْتِ عَبْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِنَا بِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَضَحِكَ وَقَالَ: (يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وَقَضَى.

(الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّاسِ وَعَادَتُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يَقْرَءُونَ " يس " عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ.

(الرَّابِعُ) أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ " قِرَاءَتَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ لَمَا أَخَلُّوا بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ.

(الْخَامِسُ) أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِاسْتِمَاعِهَا وَحُضُورِ قَلْبِهِ وَذِهْنِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا فِي آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>